وعادت البطاقة البيضاء فمر نادر عليها بأصابعه. كل إحساسه قوياً بأنها غير الأولى.
وظهرت الساعة أمامه وعلهيا ستون دقيقة هذه المرة، وبدأ العد العكسي. وغاب وجه "معاذ" في الظلام ودارت الأضواء بسرعة ثم توقفت، فحدث صمت معلق لا يسمع خلاله إلا دوران عقرب الثواني السريع على الساعة أمام نادر.
وترك نادر مقعده وقام يذرع الغرفة الخافتة الإضاءة جيئة وذهاباً.
وبعد أربعين دقيقة عاد يجلس وقد أنهكه التعب وتوتر الأعصاب. ونظر إلى البطاقة أمامه ثم قلبها بين يديه، وجلس ينتظر والعرق يتقاطر على صدره وظهره وجبينه.
ودقت الساعة نهاية الستين دقيقة، فأمسك البطاقة بيد مرتعشة وهم بإدخالها في الجيب بوجهها إلى أعلى حيث يشير السهم.
ولمعت في ذهنه فكرة خاطفة جعلته يقلب البطاقة ويدخلها في الشق عكس اتجاه السهم. وفي نفس اللحظة ظهر وجه "معاذ" وقد احتقن واحمرت عيناه وهو يفتح فمه يحاول الكلام فلا يستطيع، وكأن يداً فولاذية قد انطبقت على عنقه...
وسُمعت حشرجة عالية في جميع أبهاء "الجودي"، وأنين هائل محزن تتردد أصداؤه في جميع الممرات والمختبرات...
وتوقف الجميع عن العمل ليستعموا إلى أصوات العملاق الجبار يكافح من أجل حياته.
وجلس نادر مسمراً إلى طاولته وقد ضغط على زر التنشيط بإبهامه حتى كاد يفقد الشعور به، والوجه الضخم أمامه يعاني حتى بدأ سواد عينيه يغيب في بياضهما، والدم يسيل من جانب فمه وأنفه وعينيه...
وسمر نادر نظرته في عيني الوجه الضخم، وصاح:
- أعطني تاج!
وانسدل الجفنان الكبيران، فعاد نادر يقول:
- أعطني تاج، أعطك حياتك!
وضغط بقوة على الزر الأحمر، ففتح الوجه الكبير فمه يحاول أن يشهق أو يقول شيئاً، ورفع نادر يده قليلاً على الزر، فتنهد معاذ بعمق أعاد الحياة إلى وجهه. وتحرك الرأس موافقاً فصاح نادر:
- الآن!
وتساءلت العينان:
- كيف أثق بوعدك؟
فأجاب نادر:
- لا خيار لك!
وانحنى الرأس لحظة وغاب، فإذا تاج تلوح من بعيد في قلب الفتحة العميقة كطيف سماوي شفاف.. واقتربت كأنها تركب نسائم الهواء مؤتزرة بقطع رهيفة من الحرير، وهي مقبلة عليه حتى خرجت من الفوهة الضخمة لتقف مادة يدها نحوه، وكأنها غير قادرة على الاقتراب منه...
وأشرق وجه نادر بظهور تاج، وخفق قلبه بعنف، وعادت إلى روحه أنغام الأمل والسعادة التي كان بناها حول تاج، والتي ذهبت بذهابها...
ورأى نفسه يترك الزر الأحمر لينهض لعناقها... وما كادّ يتقدم منها حتى اصطدم بحاجز خفي كان يقف بينهما... وارتمى في الحال إلى الوراء، فأمسك بالطاولة وضغط على الزر متداركاً البطاقة قبل خروجها...
وبدأت صفارات الاستغاثة تصرخ، والمبرمجون يجرون في الممرات، والمصاعد يحاولون الصعود إلى البحيرة.. وقصد بعضهم المركز الرئيسي لتصحيح الغلط، ولكن نادر ضغط زر الحصار فانقفلت الأبواب أمام المصاعد والبوابات الكبرى، وتجاهل هو الأجراس والطرق العنيف من الخارج...
وتحول وجه معاذ الآدميُّ إلى وجه وحش بشع نبتت عليه الأورام والغضاريف والأشواك، والزعانف، وطال شعره وبرزت أنيابه واحمرت عيناه، وبدأ يمد يدين مكسوتين بالشعر الكثيف، وقد برزت منهما مخالب فولاذية كالخناجر!
وبدأ "معاذ" يغرقُ في دمه، وازْرَقَّ الوجه الكبير ثم اسود، وعلا من رئتيه شخير مفزع تحول إلى تنهد ثقيل غرق بعده الرأس إلى أسفل، وسكتت الصفارات والأجراس وانطفأت الأضواء كلها، وساد المكان صمت رهيب...
وبقي نادر يحملق في صورة تاج وقد بدأت تَشِفُّ وتشحُبُ وتتلاشى كأنها رسم ملون تحت الأمطار...
ولم يحتمل رؤيتها وهي تغيب عنه فبدأ يناديها:
- تاج! تاج! لا تذهبي..! أرجوك..! لن يستطيع التفريق بيننا الآن!
واختفت تاج تماماً. وهبط قلب نادر في لج ثقيل من الغم. وخدرته الصدمة فغرق في إغفاءة مغناطيسية لم يوقظه منها إلا الألم الحاد في إبهامه من ضغطه المتواصل على الزر أمامه، وتقاطر العرق البارد على جميع أطراف جسده.
وهوى في كرسيه مرهق الروح والجسد لا رغبة له في البقاء.. ووضع رأسه على ذراعيه فوق المربع أمامه، وانخرط في نحيب متقطع.
-47-
لم يدرك الدكتور نادر المدة التي نامها في ذلك الوضع، إذ كان الظلام ما يزال شاملاً حين أفاق.. وخيل إليه أن جميع ما حدث لم يكن إلا حلماً من الأحلام.. ولكن حين اكتملت يقظته، وقف في مكانه ومد يداً مرتعشة فضغط على زر التنشيط. وانتظر رد فعل من فوهة "معاذ" بأصابع حذرة، فلم يسمع أو ير شيئاً.
وتوجه نحو المصعد ولكنه أدرك أن مصادر الطاقة كلها توقفت، فقصد المخرج الاضطراري حيث جذب الذراع الحديدية وفتحه. ودخل فوجد السلم الحلزوني الصاعد إلى سطح الجبل. ووضع قدمه على درجة ثم رفع عينيه إلى أعلى فإذا فتحة المخرج عالية كنجم بعيد...
وبدأ يصعد بخطوات متثاقلة والفجوة العليا تكبر كلما اقترب منها، حتى بدأت النجوم تلوح في سماء فاتحة الزرقة. وداعبت خياشيمه نسائم الصحراء الجافة معبأة برائحة الأرز والخلنج.
وعند نهاية السلم وجد نفسه على شاطىء البحيرة، وقد تغير وجهها بظهور كتلة ضخمة في وسطها لم يستطع تمييزها. واقترب من الشاطىء قليلاً وهو يتأملها ليدرك أنها رأس هائل من المرمر الأبيض، تشبه ملامحه الهضيمة وجه "معاذ" في ساعاته الأخيرة...
وانقبض قلبه وخفق بسرعة. هل يكون كل ما حدث مع "معاذ" تمثيلاً وخدعة من صُنْعِه؟
وصدمه الهدوء الهائل الذي كان يشمل شواطىء البحيرة. وتذكر أنه كان تركها حية عامرة بالمحتفلين بمهرجان الربيع...
وفي غبش المساء لاحظ كتلاً جامدة كالصخور على حواف الماء، فخطا نحوها متحرياً. لم يكن رآها من قبل. وفوجىء بأن الكتل كانت رجالاً ونساء راكعين في صلاة خاشعة، مولين وجوههم نحو الرأس المرمري الهائل داخل البحيرة...
وتعرف على الدكتور أديب إسكندر الذي كان وجهه الأسمر قد كساه الشحوب، فناداه:
- الدكتور إسكندر!
ولم يستجب، فأعاد نادر النداء، وتقدم حتى وقف بجانبه، ووضع يدهُ على كتفه. ورفع الدكتور إسكندر وجهاً جامداً لينظر إلى نادر، وكأنه لم يره من قبل، فسأله نادر:
- ماذا حدث؟
ولم ير في عينيه علامة للتعرف أو الفهم، فعاد يسأل:
- هل رأيت كارول؟ هالين؟ أي واحد من جماعتنا؟
ولم يجب الرجل، بل عاد إلى صلاته يتمتم بدعوات لم يفهمها نادر.
وتركه محتاراً إلى فتاة جاثية على بعد أقدام منه فكان رد فعلها مماثلاً...
وعلى بعد عدة أمتار لاحظ نادر أجساداً ملقاة على رمل الشاطىء مبتلة الملابس، وكأن الأمواج ألقت بها حديثاً على البر..
وجرى نحوها فتعرف على وجه الدكتور فدراك بلحيته السوداء، وهو ملقى على ظهره مفتوح العينين والفم..
وجَثَا الدكتور نادر بجانبه وتناول رُسغه، وجس نبضه ووريده، فوجد الرجل ميتاً.
وخطا نحو جثة أخرى فاقشعر جلده.. كانت جثة كارول ملقاة على وجهها، فقلبها ليتأكد. وأمسك كتفها وحركها بعنف، وكأنه يأمل أن يعيدها إلى الحياة...
وحين تأكد من ذهابها ضم جسدها الشاب إلى صدره وبكى بدموع صامتة...
وحملها بين ذراعيه، وقد تدلى شعرها، وارتخت يداها وسار بها نحو الرمل الجاف، حيث وضعها بحنان كبير تحت سنديانة ضخمة... وقطف عدة أغصان وزهور وضعها حول جسدها وطوق وجهها بالأقحوان.. وتربع عند جذع الأيكة ينظر إليها في كمد صامت، وقد تجسمت في جسدها الميت كل أمانيه التي انهارت، وكلُّ حبه الذي كان يحمله لتاج..!
-48-
لم يدر الدكتور نادر كم قضى في جلسته المتحجرة.. فحين استيقظ كان الليل قد أطبق، واكتسى وجه البحيرة بعتمة باردة جعلت وجهها كصفحة من الفولاذ الأزرق...
وشعر بألم في ساقيه لخدر أصابهما أثناء نومته المغناطيسية الطويلة.... أيقظه إحساسه بشيء يتحرك على شاطىء البحيرة، والتفت فإذا صف طويل من المشاعل، وأصوات كنائسية تنبعث من ناحيتها...
وفرك رجليه ثم وقف ليمعن النظر في الموكب، فإذا وجوه مألوفة للعلماء والمبرمجين والفنانين في ملابس بيضاء فضفاضة، يرددون تراتيل آلية إليكترونية لم يفهم ألغازها وهم يتحركون نحوه..
وعند وصولهم إلى الشاطىء المواجه لوجه معاذ المرمري البارز في وسط البحيرة، وقفوا ثم ركزوا المشاعل وراءهم وتوجهوا نحو البحيرة حيث جثوا في حركة واحدة خاشعين..
ولم يصدق نادر عينيه.. حرك رأسه مراراً وهو يأمل أن يكون في حلم لا يلبث أن يفيق منه ليجد حقيقة غير هذه التي يعيشها...
وبحركة لا إرادية خطا نحو الموكب الساجد، وقد أضاءت المشاعل ظهورهم وانعكست أشعتها على الوجه الضخم، فخيل إليه أن تقاسيمه تنفرج عن ابتسامة ساخرة...
وصاح الدكتور نادر في هدأة الليل:
- "معاذ" مات! مات "معاذ"!
وترددت أصداء صرخته بين قمم "الجودي" وأغواره... والتفت قائد الموكب لينظر إلى نادر بعينين غائرتين فيهما الغضب والفزع والتعصب..
وتعرف الدكتور نادر فيه على وجه الدكتور كرونين، فناداه:
- دكتور كرونين.. أنا علي نادر.. أقول لك إن معاذاً مات..! قتلته بنفسي...! إذا لم تصدق فحاول الاتصال به..
ووقف كرونين وتناول شُعْلَتَه، ورفعها ليحملق حيث يقف نادر. وحين رآه التفت إلى الموكب الطويل وصاح بوصت مرتعش غاضب:
- اقتلوا ذلك المارقَ الهِرْطيق..!
وتوجه نحوه ليهوي عليه بالمشعل وهو يقول:
- "معاذ" حي لا يموت! ستذوق جزاء كفرانك، أيها الملحد الفاسق..!
وأدرك الدكتور نادر خطر الموقف، فاستدار وانطلق يعدو حتى اختفى في الظلام..
ووجد نفسه على حافة الجبل يلهث من التعب، وأصوات مطارديه وشعلهم تملأ المكان. فانبطح بين شعاب الصخور وقد دق قلبه في انتظار النهاية الحتمية.
وفجأة أحاطت به المشاعل من كل مكان. ولمع حد الشواقير والحراب في أيدي الجماعة المتوحشة... ونظر إلى وجوههم التي كان ألف فيها الذكاء والدماثة، فوجد أنها تغيرت، وغاب من عيونها كل بريق بشري..
وبدأت الأقدام الحافية تضرب الأرض في هَوَس بدائي، وقد غلت الدماء، وهاجت الأعصاب جائعة للقتل والتخريب... وارتعش بدن نادر كريشة في مهب الريح، وأغمض عينيه ينتظر الضربة القاضية، وقد أحس بضيق وحرج كبيرين في صدره... وبرقت في مخيلته عدة صور وأفكار، ووجد نفسه يدعو الله أن ينجيه فقط من هذه ليعود إلى الله بكامله!
وفي لحظة خاطفة من الإشراق المفاجىء، استعرض حياته ليتذكر أنه عاش أيامه العاقلة كلها غير مؤمن بدين ولا إله وشعر كأنه قطع طريق الخلود على روحه، وخنق نفسه بنفسه وفكريا ليته آمن بالله إذن لهان عليه الموت، ولم يرُعْهُ الفناء...
ودخل دائرة شعوره هدير عال غطى على أصوات مطارديه، ففتح عينيه ورفع وجهه فإذا طائرة مروحية تحوم فوقه وتثير عجاجاً من الغبار في عيون الجماعة وتطفىء مشاعلهم...
ولمسه شيء، فرفع يده فإذا هو سلم يتدلى. أمسك بمرقاتهِ السفلى في الحال وتعلق به. وما كاد يعانقه حتى ارتفعت الحوامة واختطفتهُ من وسط الحلقة التي كادت تطبق عليه...
وبدأ السلم يعصد آلياً والحوامة متوقفة في الفضاء حتى وصل نادر إلى بابها، فدخله وانقفل وراءه، فوقف يلهث غير مصدق المعجزة التي أنقذته..
وبعد لحظة شعر بوجود الربان، فتوجه نحو غرفة القيادة ليشكره.
كان الربان يلبس خوذة بيضاء تتدلى أمامها نظارة زرقاء تحجب نصف الوجه الأعلى، وقد أمسك بعصا القيادة بيمناه، ولمعت كسوته الفضية تحت ضوء السقف الباهت. قال نادر:
- شكراً لك على إنقاذ حياتي...
فحرك الطيار رأسه، ومد يدا لمصافحته، فأمسك بها الدكتور نادر، وشد عليها بقوة...
وأشار إليه الطيار أن يجلس في الكرسي المجاور، ويشد الحزام حول خصره وصدره، ففعل ممتنا. وعاد ينظر إلى وجه منقذه الغامض الذي لم ينطق بكلمة بعد...
وانتظر لحظات نظر خلالها إلى تحت، فإذا المشاعل تتحرك حركات مجنونة، وبعضها يُرمى نحو الحوامة ليعود نحو راميه...
ومالت الحوامة يميناً، ثم اختفت في الظلام. وابتعد الجبل رويداً رويداً حتى لاحت البحيرة الواسعة كمرآة تحولة إلى نجم أرضي بعيد...
والتفت الدكتور نادر نحو الطيار وسأل:
- مرة أخرى أريد أن أشكرك...
فرفع الطيار يده في قفازها إلى رأسه بالتحية، دون أن ينطق. فأضاف الدكتور نادر:
- أرجو أن تكشف لي عن هويتك...
وارتَفَعَتْ يد الطيار إلى فمه، يطلب السكوت والتمهل، فسكت الدكتور نادر، ووجه نَظَرَهُ نحو الزجاج أمامه يخترق بعينيه الليل ويحاول فك هذا اللغز المحير...
وخدره صوت المروحة الرتيب ودفء الكرسي المريح وصمت الرفيق الغريب وحلكة الليل، فأحس بأعصابه المتوترة ترتخي، ولم يدر كيف انسدل جفناه وراح في سبات ثقيل...
-49-
لمست خيوط الشمس الحريرية الأولى رؤوس التلال والهضاب، فانعكست ظلال الصباح الباردة على الأحقاف الرملية العذراء تبشر بأزلية الصحراء...
وفتح الدكتور نادر عينيه حين وقعت عليهما أشعة الفجر من خلال قبة المروحية الزجاجية الجاثمة على الرمل، فالتفت حواليه ليرى أين هو. كان كرسي الطيار إلى جانبه فارغاً، فأحس بفزع خفيف من أن يكون ترك وحده في قلب الصحراء... ونظر خارج الطائرة فتبين أنه في واحة خضراء مألوفة عنده.
واعتدل في كرسيه، فإذا على الأرض أمام الحوامة إنسان يقف مولياً إياه ظهره. وركز انتباهه فإذا الواقف امرأة ذات شعر أحمر حريري مسرح إلى الخلف، وعليها عباءة بيضاء.
وقفز قلبه وهو يفتح الباب لينزل. وما إن لمست قدماه الأرض حتى نادى:
- كارول؟
والتفتت المرأة بعد ارتعاشة فزع صغيرة، فإذا هي كارول نفسها.. أجمل في تلك اللحظة منها في أي وقت.. تواجهه بوجه صبوح وعينين مليئتين حياة ودفئاً...
وفتحت له ذراعيها فارتمى بينهما وضمها إلى صدره بقوة، وقد ابتلت عيناه دون أن يدري...
وبعد لحظة أبعدها عنه لينظر إليها، ثم سأل:
- ولكنني تركتك... تركتك...
فأضافت:
- ميتة؟
- أكاد أقسم أن نبضك كان متوقفاً
- توقف مؤقتاً فقط.
- لابد أنها معجزة لقد حاولت إرجاعك إلى الحياة بكل قواي، ولكنك كنت جثة هامدة..!
ثم ضمها إليه مرة أخرى، قائلاً:
- ولكن شكراً لله على عودتك..! لن أتساءَل عن الأسباب.. فلابد أن هناك عالماً آخر وراء هذا بيننا وبينه حجب وأستار...
وسألته كارول عمَّا إذا كان جائعاً، فتذكر أنه لم يأكل مدة يوم وليلة، فعادت إلى الحوامة وأخرجت بعض الطعام، وافترشت لحافاً تحت دغل من النخيل وجلسا يأكلان.
وسأل نادر:
- ماذا حدث؟ من جاء بنا إلى هنا؟ أين طيارنا الصامت؟
وابتسمت كارول وقالت:
- أنا طيارك الصامت... لم أرد أن أكشف لك عن هويتي ونحن في الفضاء في حلكة الليل حتى لا أفزعك. فقد كنت تظنني ميتة.
ولاحظ نادر أنها اكتسبت عادات جديدة لم تكن لها من قبل، رغم أنها مألوفة لديه. ولكن ملاحظته بقيت في شعوره الباطن، كما بقي إحساسه بأن هناك هالة غريبة تحيط بشخصيتها...
وعاد يسأل:
- ماذا حدث؟
وركزت كارول عينيها في الفراغ وكأنها تجمع أشتات خيالها، ثم قالت:
- كل ما أتذكره هو أن "معاذاً" في دقائق حياته الأخيرة أصيب بنوبة جنون حادة... ويظهر أنه عرَّض جميع علماء الجودي من حاملي الصراصير إلى عملية غسل دماغ كاملة، ثم برمجهم بحيث يصبحون عباداً آليين له.... أو على الأقل للتمثال الذي صنعه لنفسه وأخرجه من قلب البحيرة، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
- وماذا جرى لجماعة الثوار والمخبإ الذي كنتم فيه؟
- أغرقه معاذ بسرعة لم نملكْ معها الخروج في الوقت المناسب... ولقي أغلبنا حتفه في اللحظات الأولى من هجوم الماء من كل جانب... وقد سمحوا بإخراجي أنا الأولى لكوني امرأة...