علاج للطفش طريقة تحميل صور شرح حذف الكوكيز اسباب ظهور تحذير بالمنتدى

تنبيه هـآم : يمنع وضع الصور آلنسائيه و الآغـآني في المنتدى

:bnaatcom0153:

 
 
العودة   منتديات بنات > مجالس الادب والشعر > القصص والروايات > الروايات الكاملة
 
 

الروايات الكاملة خاص بعرض الروايات الكاملة والطويلة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 01-02-2007, 12:57 AM   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
سوسو 14
مُشرفة سابقة
 
إحصائيات العضو








سوسو 14 غير متواجد حالياً

 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 17
سوسو 14 is on a distinguished road

 

 

افتراضي رد : - - --^[ (الطوفان الأزرق -رواية من الخيال العلمي) ]^-- - -

- أتعرف أن أبي ما يزال يعتقد أن الأرض مسطحة؟ ولو أخذته في طائرة ودرت به الأرض لحرك رأسه وقال: "والأرض بساط" و"الأرض دحاها" و"جعلنا الأرض مهادا" صدق الله العظيم! وحين كبرت بدأت أفهم أن عقلية الإنسان تتحجر حين يبلغ سناً معينة، ولا تبقى لينة تتقبل الأفكار الجديدة، كما كانت حين كانوا صغاراً في مثل سنك. وسوف تكبر أنت ويصعب عليك أن تتنازل عن أفكار كثيرة آمنت بها في شبابك!
ونظر الفتى إلى الدكتور، وتكلم لأول مرة متأثراً:
- حين أصبح مثل هؤلاء سأقتل نفسي!
- بالعكس، تذكر ما قاله المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

ونظر الفتى إلى الأرض، وقال:
- أحياناً أتمنى لو لم يكن والدي بعث بي إلى فاس، لكنت هنا واحداً منهم، أُومنُ بما يؤمنون به، أقول بسطحية الأرض، وأرقص على الأذكار، وأنتظر المهدي المنتظر، وأمجد مولاي عبد القادر الجيلالي، لكنت أسعد مما أنا!
قال الدكتور: هل من أجل خلافك معهم في هذا وضعك والدك في القيود؟
- قلت لهم أن يعودوا إلى الله، لا يمكن أن تصدق ما يملأ عقول هؤلاء الناس من وثنية وشعوذة. كلمة الله لم تعد شيئاً بالنسبة إليهم. إنهم لا يرونه. وقد ارتدوا في وثنية الجاهلية الأولى، فخلقوا الأضرحة والأولياء وعلقوا التمائم والعقارب حول أعناقهم. وتوجه النساء نحو الحجارة فطلوها بالجير وقدسوها، وإلى الأشجار فعلقوا عليها قطعاً من ملابسهم بدرجة مخجلة. حين قرأت عن المجتمع الجاهلي قبل الإسلام لم أجد فرقاً بينه وبين هذا. وشعرت بالرغبة في دعوة قومي إلى الإسلام والعودة إلى الله. وليتني لم أفعل. ليتني بقيت أعمى مثلهم!
- أبداً، يا ولدي! لقد أنعم الله عليك بالبصيرة! ولن ترضى بها بديلاً.
ونظر إليه لحظة وقال:
- أتعرف أن وضعيتك هذه تذكرني بقصة مشهورة لكاتب إنجليزي، عنوانها "مدينة العميان" وموضوعها باختصار أن رجلاً هام على وجهه في منطقة عذراء لم يصل إليها مستكشف، فعثر على مدينة كل سكانها عميان. وحين دخل المدينة وأعلن لهم أنه مُبصرٌ، وأن هناك حاسة إبصار، وأن هناك سماء وشمساً وليلاً ونهاراً، وأن المدينة ليست مسقفة بسقف علوه ست قامات، كما يعتقدون، قبضوا عليه بتهمة مخالفة التقاليد والعقائد الموروثة، وخيروه بين أن يفقأوا عينيه حتى يصبح أعمى مثلهم، أو يغادر المدينة. ورغم أنه كان وقع في حب أجمل فتاة هناك وكان يريد الزواج بها، فقد فضل الخروج من دفء المدينة إلى برد الأصقاع الموحشة. فضل أن يموت مبصراً على أن يعيش أعمى. هل تجد مقارنة بين بطل القصة وبينك؟
وانشرح وجه الفتى، ونظر بإعجاب إلى الدكتور نادر، وقال:
- إذن المسألة دورية، أعني أن الإنسانية كلها تقع على وجهها من حين لآخر، وتحتاج إلى أنبياء لإيقافها على رجليها!
وحرك الدكتور رأسه موافقاً، وأضاف الفتى:
- وماذا ينبغي أن يفعل البصراء؟ ماذا يكون مصير الإنسانية لو أن كل من أبصر غادر مدينة العميان دون أن يحاول فتح عيون أهلها؟
ورد الدكتور:
- هناك اعتبارات تقلل من أهمية الإبصار. مثل ظروف قومك، أي تغيير في معتقداتهم وعاداتهم معناه تحلل مجتمعهم، وإذا تحلل مجتمعهم صارت حياتهم مستحيلة. لأن استمرارهم يعتمد على وحدة كيانهم.وصمت قليلاً ثم قال:
- هناك أشياء أهم عند السياسيين والزعماء، مثل والدك، من المعرفة والإبصار، وهي السعادة الجماعية والرضا بطريقتهم في الحياة وأتباع ما جاء به الأولون دون تغيير كبير.
وأحس الفتى بسرور عميق فقال:
- لم أفكر في كل هذا. أنا الآخر كنت أعمى بطريقة أخرى. المعرفة لا معنى لها بدون حكمة.
- أنا سعيدبحل قيودك.
- ماذا تقترح أن أفعل؟
فقال الدكتور نادر مازحاً:
- لنتظاهر بأننا لا نرى شمساً ولا قمراً، وأن على المدينة سقفاً يبعد ست قامات، وأن الإبصار جنون ما سمع به الأولون ولا الآخرون.
ورفع الفتى عينيه، وهو يضحك فاختفت الابتسامة من وجهه. ورفع نادر عينيه فرأى الشيخ واقفاً على باب الخيمة، ينظر إليهما بوجه بارد كشفرة سيف!

-16-
وقبل أن يفتح الدكتور نادر فمه بادره الشيخ:
- أرجو ألا يزعجك ما سأقول لك. السيدة زوجتك تحس بتعب خفيف.
ووقف نادر بسرعة، فقال الشيخ:
- لا تقلق، إنها الآن بخير، أعتقد أن طعامنا لم يوافق معدتها. وقد أعطيناها عصير بعض الأعشاب لتسهيل وتنظيف جوفها. وهي الآن في خيمة الضيافة تسأل عنك.
وخرج نادر بخطوات واسعة نحو خيمته. وحين دخل على تاج، كانت عيناها مغمضتين، وإلى جانبها امرأة عجوز، قامت عند دخوله وخرجت. وركع هو إلى جانب فراشها، وأمسك بيدها ففتحت عينيها.
- عزيزتي، كيف تحسين؟
وابتسمت ابتسامة ذابلة وقالت:
- زال الألم.
- فزعت جداً من أن يكون شيء يحتاج إلى طبيب. وأين تجد الطبيب هنا؟
- الشربة التي أعطتني العجوز كان لها مفعول مدهش. لابد أنهم عرفوا سبب الألم.
- القوافل عوالم قائمة بذاتها. لا تحتاج إلى أطباء ولا أدوية كل شيء تنتجه بنفسها. لابد لها من الاكتفاء الذاتي للبقاء!
وبعد صمت قصير قالت تاج: أليس سخيفاً أن أمرض في مثل هذه الظروف؟
قال مطمئناً: لا تقلقي. كل شيء سيكون على ما يرام.
ثم تذكر الشاب وأضاف:
- لقد اكتسبت صديقاً جديداً...فنظرت تاج مستغربة:
- من يكون؟
- ابن الشيخ المختار.
- هل وجدوه؟ كان هرب من سجنه.
- لحقّوا به وأعادوه، فليست هذه أول مرة يهرب فيها.
- لماذا يهرب من أهله؟ وإلى أين؟ إلى الصحراء؟ لابد أن يكون يطوي أحشاءه على جرح دام.
- ذلك ما ظننت. وقد طلبت من أبيه الشيخ أن يسمح لي برؤيته والحديث إليه ففعل.
- هل تحدثت إليه؟
- حديثاً قصيراً. قاطعني الشيخ في نهايته ليقول لي عن إصابتك. ولكن أعتقد أنني نفذت إليه.
قالت: ما مشكلته؟
وشَرَدَ الدكتور نادر مفكراً، ثم قال ببطء وهو يبحث عن الكلمات:
-مشكلته. هل سأقول البحث عن الطريق؟ أي طريق؟ كل الطرق توصل إلى نفس الجدار الجبار الذي تصطدم به عقولنا الواهنة، وتسقط تتخبط في أوحال الخيبة.. ولكن الولد ما يزال في مرحلة المجد. مرحلة الإيمان. قال لي إنه يريد أن يعود بقومه إلى الله!
قالت، وهي تضغط على يده لتوقظه من سرحته:
- وماذا قلت له؟
- قلت له إن وحدة قومه أهم من رجعتهم إلى الله.
- وهل اقتنع؟
- أعتقد. ولكن لا أضمن أن آثار حديثي إليه ستدوم طويلاً. ضمير الولد يحترق. وعقله يركض بسرعة الضوء. لابد أن سيجد في منطقتي ثقوباً كثيرة، ويثور مرة أخرى ليوضع في القيود من جديد لكني أعتقد أنني كسبت صديقاً وخسرت آخر.
قالت: ماذا تعني؟
قال: بينما أنا أتحدث إليه دخل علينا والده الشيخ. لا أدري كم سمع من حديثنا، ولكن وجه كان جامداً كالصخرة حين التفتُّ إليه.
قالت: ربما كان مهتماً بما حدث لي، وكان يفكر في الأسلوب الذي ينبغي أن يعلن به الخبر إليك...
قال: أرجو أن تكون تلك هي الحقيقة. ولكن ما يهم الآن هو أنت. كيف تشعرين؟
قالت: أحسن، أحسن كثيراً...
وترامى إليهما من خارج الخيمة صوت الطبول مصحوباً بالتهليل والتكبير وقراءة ورد الطريقة. ثم بدأت الحضرة، ووقف الرجال صفاً واحداً، وبدأوا يتحركون على مهل يميناً ويساراً مع الألحان...ورفعت تاج رأسها تريد أن ترى ما يحدث من فتحة باب الخيمة، فقام الدكتور نادر ورفع الستار كله، ثم عاد إلى تاج فوضع بعض الوسائد وراء ظهرها لترى أحسن.
قالت: ماذا يفعلون؟ يرقصون؟
قال: ليس تماماً. إنهم "يتحيرون"!
قالت: يتحيرون؟ وما معنى ذلك؟
قال: الحيرة نتجت عن جلسات مفكري الصوفية وحلقات مناقشتهم. كانوا يجتمعون كل مساء لدراسة التوحيد والجدل والتفلسف في وجود الله، خلوده، ووحدانيته، القضاء والاختيار، النبوة، بقية الأديان، كل شيء يتعلق بمكافحة الشك الذي كان يستشري بين طبقات المثقفين حينئذٍ. وإرجاع الطمأنينة إلى الضمائر والإيمان إلى القلوب.
قالت: ولكن كيف نتجت "الحيرة" عن جلسات معقدة المواضيع، وهي مجرد حركات تعبدية وطقوس بدائية؟
قال: الحيرة معناها فيها... هي الذهول الناتج عن اصطدام العقل البشري الضعيف بالحائط الجبار. وفي لغتنا الدارجة مثل هذا المعنى أعتقد أنه نزل إلينا من أيام الصوفية، وهو "اللي حقق يحمق ويغيب عن عقله!" لابد أن هذا ما كان يحدث عندما تنغلق الأبواب، ويتيه العقل في المجهول. يبدأ الجميع بالتوسل إلى الله وطلب الهداية، وتتحول الحلقة إلى ندوة أشعار وغناء، وكلها تعبير عن حب الله والفناء في ذاته، ويتحول المجلس إلى مرقص صاخب ظاهره تمجيد الله، وحقيقته احتجاج على العجز الفطري المورث في الكيان البشري.
قالت فاتحة فمها وهي تشير بأصبعها إلى حلقة الذكر والحضرة وعيناها تتألقان:
- أتعني أن هذا كله نتيجة لذلك؟!
وحرك رأسه موافقاً، فقالت:
- هذا يفسر كثيراً من طقوس المجتمعات المتخلفة. لابد أن لرقصاتهم وحركاتهم المعقدة أصلاً في الحضارت الأولى قبل فسادها وعودتها إلى الخمود. لابد أن كثيراً من العقول اصطدمت بنفس ما تسميه بالحائط الجبار قبل آلاف السنين. حتى قبل أن تجىء الأديان لتنقذ الإنسان من إحراق عقله!
وربت نادر يدها الرخصة قائلاً:
- من يدري؟!
وبعد صلاة العشاء التفت الشيخ إلى نادر وقال:
- أعتقد أنه من الأليق أن تتعشى مع السيدة حرمك. فقد أمرت لكما العشاء في الخيمة.
وشكره الدكتور نادر وودعه وعاد إلى الخيمة حيث كانت تاج تنتظرهُ بالعشاء.وبعد الأكل أحس الدكتور برأسه يثقل وبأجفانه تقفل وحدها، ولم يشعر حين أخذه النوم.
وجاء الصباح مبكراً. أرسلت الشمس من خلف التلال والكثبان أشعتها في سماء واسعة الآفاق. وإلى الغرب كانت النجوم ما تزال بيضاء تلمع كدنانير البلاتين.
فتح الدكتور نادر عينيه ونظر من تحت غطائه إلى السماء. كانت رجلاه باردتين، فانكمش ليدفئهما. وفجأة أحس إحساساً قوياً بالوحشة. كان الصمت مطبقاً حواليه، وبدأت القشعريرة تسرى إلى بدنه. فأزاح الغطاء عن وجهه ليجد أن الخيمة ذهبت، وأن الواحة مقفرة موحشة لا أثر فيها لإنسان...
ووقف ليمسح ببصره الأفق لعله يرى أثراً للقافلة. لاشيء يتحرك على مد البصر. وأحس بالرعب يمسك قلبه بيد نحاسية باردة! وكاد يقفز حين مست كتفه يد تاج، فالتفت محاولاً تفادي عينيها.
ودار في مكانه، ثم ضرب برجله الأرض قائلاً بمرارة:
- أنا ومواعظي!
وواجهته تاج بأعصاب هادئة وقالت:
- لا تلم نفسك!
- لو لم أتطوع أن أعمل كطبيب نفسي لابن الشيخ لما كنت أنزلت غضبه علي وعليك أنت البريئة!
- الشيخ كان خائفاً من مسؤولية وجودنا في القافلة على كل حال. كان يعتقد أننا جواسيس مغاربة على موريطانيا. وربما بتركه لنا هنا قدم لنا خدمة. من يدري ماذا كان في نيته؟
- لقد وعدني بتوصيلي إلى السينغال، إذا أقنعت ابنه بالعودة إليه وعدم محاولة الهروب. وأنا متأكد أنه سمع حديثي إلى ابنه، فقرر أن يتركنا هنا تحت رحمة الصحراء ووحوشها وجهلنا بموقعنا فيها.
- لا فائدة من الندم على ما فات. ماذا الآن؟
وحرك نادر رأسه:
- سؤال وجيه.
ومشى نحو الكانون ووقفت تاج تنظر حواليها.
كان هدوء الصباح وبرودة الجو وخلو الواحة توحيان بشعور غريب. كان الندى يثقل جذوع النخيل المتشابكة حول البئر وفي غرب الواحة.
وتمشى الدكتور نادر على حافة الأرض المعشبة ينظر إلى آثار الأقدام وحوافر البهائم. وحين عاد إلى تاج كانت هذه تقفل حقيبتها بسرعة وتجمع الأغطية والألحفة وتطويها.
قال نادر وهو يقف وراءها:
- هل تعتقدين أن هناك خطراً في اللحاق بالقافلة؟
ووقفت تاج والتفتت إليه:
- لاأدري. ولو كان للرجل رغبة في مساعدتنا لما تركنا خلفه هنا. ومعنى اللحاق به هو الارتماء عليه، وربما اضطراره إلى البحث عن طريقة أخرى للتخلص منا. قد لا تكون أسلم لنا من هذه!
قال مقتنعاً:
- فكرت في ذلك.
وأشار إلى الجنوب:
ذهبت القافلة من هناك. كل آثار الأقدام والحوافر تشير إلى تلك الناحية، لا يمكن أن يكونوا بعيداً وراء الكثبان.
ونظر حوله وسأل:
- ما ذلك؟
- بعض الطعام. قديد ودقيق محمص بالسمن وتمر وعسل. لابد أن السيارات أشفقن من حالنا وتركن ذلك.
- على الأقل لن نموت جوعاً.
قالت تاج: لا تُفكِّرْ في الموت الآن. بعد أن نجونا من حادث الطائرة، ووجدنا الواحة والقافلة لا أعتقد أن أجلنا قد وصل. كانت هناك مناسبات أهم لهلاكنا من الوجود على واحة خضراء. ثم لا شك في أن البحث عنا قائم على قدم وساق. وربما لن نبقى هنا يوماً أو يومين حتى تصل مروحية أو طائرة استكشاف. علينا فقط أن نترك علامة على وجودنا هنا.
- ماذا تقترحين؟
- لنشعل ناراً دائمة.
- النار لليل فقط. بالنهار لن يروها، خصوصاً إذا لم تترك دخاناً، وحتى لو تركته هناك دائماً حرائق بالواحات.
- المظلات إذن!
- ماذا نفعل بها؟
- ننشرها على أعلى كثيب. وسوف تجلب انتباه أي طيار من أي ارتفاع بألوانها الصارخة.
- عندي فكرة أحسن.
- ما هي؟
- نصنع بها خيمة في وسط هذه القاعة حيث يمكن أن ترى من الجو بسهولة، وحيث نقيم.
- وظيفة مزدوجة.
- تماماً.
وتعاونا على رفع المظلة على قوائم من سعف النخيل وسيقانه، وشداها إلى الأرض بأوتاد من خيوطها الحريرية.
ووقف نادر ينظر إلى الخيمة بإعجاب لما صنعت يداه، ثم نظر إلى تاج، كانت تنظر إليه بوجه جهم وعينين فيهما قلق خفي. وأحس برغبة في ضمها إليه، ولكنه تراجع في نفس الثانية... وضع يده على يدها وقال:
- عزيزتي، لا حاجة إلى ذهابك معي. ابقي هنا، فأنت ما تزالين ضعيفة من الأمس. لقد حدث كل شيء بسرعة فاقت تفكيري، فلم أقف حتى لأسألك عن حالك.
فابتسمت وقالت:
- الخطر يفتح مخازن الطاقة الموفورة. حينما تنهض الروح يتبعها الجسد.
وضغط على يدها في حنان وقال:
- سأعود حالاً.
- سأعد شيئاً للفطور.
وعند الزوال عاد نادر مبهور الأنفاس عطشان، ومدت تاج إليه كوب ماء وهي تسأله:
- هل رأيت شيئاً؟
وحرك رأسه نافياً وهو يمسح شفتيه:
- لا شيء بالمرة. الواحة محاطة ببحر هائل من الرمال. ولا أثر للحياة على مد البصر. لا شيء يتحرك غير السراب المتراقص. كدت أظنه ماء يتماوج والواحة جزيرة في وسطه.
- تعال ادخل الخيمة لتبترد قليلاً، لابد أن الشمس أثرت على مخك ودخل الخيمة واستلقى على لحاف، وأغمض عينيه. ودخلت تاج فجلست إلى جانبه تنظر إليه وتتكلم.
- حاولت أن أسأل النساء عن موقعنا فلم أفلح. وقد فهمت منهم أننا على بعد أسبوع من أقرب مركز تجاري بالشمال على حدود المغرب الجنوبية، وشواطىء الصحراء.
- ماذا عن ناحية الغرب؟ ناحية البحر؟
- أظن أنهم لا يعرفون البحر. طريق قافلتهم هذه لم يغيروها منذ كانوا.
وفكر الدكتور نادر قليلاً ثم قال:
- لو أننا قط عرفنا الطريق إلى البحر.. هناك فرص أكثر للنجاة من هذه الواحة ال*****ة.
وأجابت تاج مواسية:
- لا تقلق. الواحات بالنسبة للقوافل أهم من شواطىء البحر، وهذه يظهر أنها في طريقهم وإحدى مراحلهم المهمة للراحة والتزود بالماء.
ووقف يمسح وجهه المحتقن بيده فقالت:
- كيف تحس الآن؟
- رأسي يغلي من الحر.
- لماذا لا تستحم بالماء البارد؟
وحين عاد كان شعره يلمع من بلل الماء الذي تعلقت منه قطرات صافية على رؤوس الشعر الأسود الذي بدأ يغطي ذقنه. ووجد أن تاجاً قد أعدت بعض الطعام فقعد متربعاً قبالتها وعيناه تحملقان في الفراغ:
- ماذا يشغل بالك؟
وأفاق من شروده فحرك رأسه وقال:
- لا أفهم.
- ماذا؟
- قضينا بهذه الواحة ما يقرب من ثمان وأربعين ساعة دون أن نرى أحداً من ركاب طائرتنا الذين نزلوا بالمظلات. المفروض أنهم نزلوا في بقعة واحدة وعلى مسافات متقاربة.







التوقيع

كفاني عزا أن تكون لي ربا و كفاني فخرا أن أكون لك عبدا أنت لي كما أحب فوفقني إلى ما تحب

.
.

ربي اني ظلمت نفسي ظلما كبيرا فاغفر لي ذنبي انه لايغفر الذنوب الا انت
.
.

قال لي أبــي ذات مرة :
وراء كل الطرقات المظلمة سعادة تنتظرنا .. !!

   

رد مع اقتباس
قديم 01-02-2007, 12:58 AM   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
سوسو 14
مُشرفة سابقة
 
إحصائيات العضو








سوسو 14 غير متواجد حالياً

 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 17
سوسو 14 is on a distinguished road

 

 

افتراضي رد : - - --^[ (الطوفان الأزرق -رواية من الخيال العلمي) ]^-- - -

وفكرت تاج قليلاً ثم قالت:
- فكرت أنا الأخرى في ذلك أثناء غيابك. قلت في نفسي يا ترى هل سيكفي الزاد الذي تركته لنا القافلة غيرنا إذا اتفق أن وجدوا الطريق للواحة.
وعاد الدكتور نادر يقول:
- ثم ليس هناك أثر لبعثة إنقاذ. لم نسمع أو نر طائرة واحدة تمر من هنا. وهذا يعني شيئاً واحداً، وهو أننا ابتعدنا كثيراً عن طريق سير الطائرات. ولاشك أنهم يمسحون مناطق أخرى دون أن يخطر ببالهم أننا هنا.
وسرت ارتعاشة خفيفة في جسد تاج، لاحظها الدكتور علي نادر، فمد يده ليربت على يدها مواسياً:
- لا تخافي يا عزيزتي. لابد أن تصل بعثة إنقاذ قريباً.
وأكلا ما وضعته تاج على منديل بينهما. وخرج الدكتور نادر من الخيمة فمسح بعينيه أركان الواحة بنخيلها الباسق، وظلالها الطويلة وكثبانها المخضرة. ثم أظل عينيه بكفه وجال بهما كثبان الصحراء التي كانت تبدو متأججة بيضاء كالسعير.
وعاد إلى داخل الخيمة ليجد تاجاً مستلقية تستريح، وعيناها مفتوحتان تنظر إلى سقف المظلة الكبيرة منتفخة بالهواء الساخن، ومن خلفها الشمس تبرز ألوانها الزاهية.
قال وهو ينظر إلى الخيمة دارساً:
- ينبغي أن ننتقل من هنا قبل نزول الليل.
- إلى أين؟
- إلى جنب صخرة للاحتماء من العواصف وال*****ات. هنا سنكون عرضة لكليهما.
ووافقت تاج دون أن تقول شيئاً. ثم أغمضت عينيها، وتمدد هو في طرف الخيمة المقابل،
وسرعان ما تعاقبت أنفاسه وغرق في نوم ثقيل. وعندما تأكدت تاج أنه نام خرجت من الخيمة
وتوجهت نحو أطراف الواحة الجنوبية، فأخرجت من حقيبتها منظاراً مكبراً صغيراً، وأخذت
تمسح الأفق الجنوبي من فوق تل عال.
وأفاق الدكتور نادر وهو يحس بتجدد في نشاطه وانتعاش في بدنه. ونظر إلى حيث كانت تاج
فلم يجدها فخرج يبحث عنها.
ومن ناحية البئر سمع صوتها الرقيق وهي تغني أغنية باكستانية لم يفهم كلماتها، ولكنه أحس
أنغامها قريبة من قلبه. ووقف ينصت في حذر تام ساعد على تعميقه صمت المساء وهدوء
الواحة الشامل.
وفي لحظة قصيرة عادت به الأغنية إلى صباه حين كان يقرأ ألف ليلة وليلة ويصحب السندباد
في أسفاره إلى بلاد الهند والسند. ومر في مخيلته شريط ملون عجيب.
ولكنه عاد إلى واقعه ليدرك أنه واقف في نصف الطريق من الخيمة والبئر، فخطا خطوات
أخرى ليفاجىء تاج... وعند اقترابه من زرب النخيل الكثيف المحيط بالبئر سمع صوت الماء
مع الغناء. و نظر من بين جذوع النخيل فإذا تاج عارية وشمس المساء تلمع على جلدها الخمري الناعم، وهي تصب دلو الماء على رأسها مستلذة برودته.
واحمر وجه الدكتور نادر، فأغمض عينيه، وعاد إلى الخيمة وفي خياله صورة تاج حية رائعة كحلم من بين صفحات ألف ليلة وليلة..وفي ذلك المساء نقلا الخيمة ونصباها على ثغرة كبيرة في صخرة، ثم تفرقا يجمعان الحطب ويتأملان الغروب الذي أصبغ على الصحراء جواً أسطورياً مخدراً.
ونزل الليل سريعاً، ولم يبق من آثار الشمس إلا شفق أحمر قرمزي كانشقاق كومة فحم هائلة على لهب جديد...واقتربت النجوم من أحقاف الرمل المترامية كدنانير فضية متراقصة في قبة زرقاء باردة..وأوقد الدكتور نادر أمام الخيمة ناراً متأججة، جلس يطعمها هو وتاج من كومة الحطب، ويتأملان اللهب المتراقص في غياب عن وجودهما، وقد خدَّر أحاسيسهما مفعول اللهب المغناطيسي.
وذاب الحطب على النار. وهبت ريح باردة شعرت تاج لها بقشعريرة فاقترحت دخول الخيمة ودفن المتبقي من النار حتى لا تجرفه الريح نحو الخيمة.
قال الدكتور نادر:
- يظهر أن عاصفة في طريقها نحو الواحة.
ودفنا النار إلا بعض الجمر الكبير الذي جمعه الدكتور نادر على حجر مجوف وأدخله الخيمة للتدفئة.
واتكأت تاج على باطن الصخرة، وسهمت بعينيها خارج باب الخيمة، ولم تلبث أن ثقل جفناها فراحت في نوم عميق.
وطال الليل..
ولم يغمض لنادر جفن حتى أنهكه السهر والتعب والتفكير في مصيرهما. وظل ينصب إلى أصوات الصحراء الغامضة، وينظر من فتحة الخيمة إلى تلالها البعيدة تقترب وتبتعد أو تعلو وتنخفض كصدور هائلة تنتهد... وجاءت الريح تعوي عواء الذئاب وتهرُّ هرير وحوش الليل... وحين أنهطه التوقع والتوتر استسلم لسبات عميق أشبه ما يكون بالإغماء.
وقبيل الفجر استيقظ على صوت أنثى تحركه وتنادي باسمه، ففتح عينيه ليرى شبح وجه تاج وسوالف من شعرها تتدلى على وجهها.
- علي... علي.. أفق..!
- ماذا؟
- أفق، اسمع...
وجلس هو في مكانه يفرك عينيه ويرهف سمعه، وهو ما يزال تحت تخدير النوم. فقالت تاج:
- هل سمعت؟
- ماذا؟
- صوت آلة ميكانيكية، لعلها طائرة أو مروحية، تأتي به الريح...
وزحف الدكتور نادر خارجاً من تحت المظلة، ورفع وجهه يُحملق في السماء ويرهف سمعه. وارتفع صوت المحرك آتياً من ناحية الجنوب، فالتفت بسرعة وركز بصره إلى الأفق. وفجأة ظهر شبح ملتف في زرقة الليل العميقة صاعداً من وراء التلال، فتبين من حركات مروحته الضخمة أنه طائرة عمودية تكاد بطنها تلمس رؤوس الكثبان الرملية...
وبدون تفكير وقف الاثنان يلوحان للطائرة، ويقفزان ويصيحان بأعلى صوتهما بحماس هستيري.
واقترب الشبح فحلق فوق النخيل وارتفع زئيره فأغرق أصواتهما في دويَّه الهائل... وانتفض سعف النخيل وجذوعه بقوة، وتبعثرت الرمال، وتماوج شعر تاج وعباءة الدكتور نادر تحت الزوبعة التي أثارتها مروحة العنقاء الحديدية.
ومرت الطائرة سريعة دون أن تلوي على شيء، واختفت في الأفق الشمالي بالسرعة التي ظهرت بها.
وارتجفت تاج، وهبط قلب الدكتور نادر من خيبة الأمل، وهو ينظر إلى الشبح يختفي في حلكة الليل ويسمع صوته يتلاشى شيئاً فشيئاً...
ولم تمض دقيقة على مرور الطائرة حتى سمع الاثنان صفيراً حاداً فوق رؤوس النخيل، ورأيا شهاباً نارياً أشبه ما يكون بسهم يحترق يمرق بارقاً في نفس اتجاه الطائرة العمودية... ولم تمض إلى لحظة قصيرة حتى لاح لعينيهما برق خاطف تلاه صوت انفجار هائل...والتفتا نحو الشمال فإذا ضوء وهاج ينير الأفق خلف التلال.
وظهر الفزع على وجه تاج، ففتحت فمها دون أن تنطق، وتساءل الدكتور نادر:
- أرأيت؟ لابد أن السهم الناري الذي مرق كان صاروخاً أسقط الطائرة. يا ترى ماذا يجري هنا في قلب الصحراء؟
ولم تجب تاج فقد كانت ترتعش في موقفها، فلم يدر الدكتور نادر هل من البرد أم من الخوف، فأحاطها بذراعه وضمها إلى جنبه لينزل على نفسها بعض الطمأنينة...
ثم قال:
- لابد أن حرباً سرية دائرة في هذا القفر السحيق ونحن في خط النار.
وارتجفت تاج فقادها نحو الخيمة.
- تعالي ندخل الخيمة. على الأقل نتستر من البرد.
واستلقى الاثنان دون أن يغمض لأيهما جفن. ومرت لحظات ظناها ساعات وهما يتسمعان إلى الأصوات الغريبة. كانت في نية الدكتور نارد أن يستوقف أي جندي يمر عبر الواحة ويطلب منه أن يدلهما على مكان هيأة الأركان.
ومرت ساعة وهو ينصت بتركيز كبير لعله يسمع صوت وقع أقدام على الرمال خارج الخيمة.. ومرت ساعة أخرى أفقده فيها النعاس والتعب القدرة على التركيز فأغمض عينيه ونام...


-19-
واستيقظ الدكتور نادر من حلم غريب رأى نفسه خلاله في ركن حمام بخاري ساخن، تتصاعد الأبخرة من أرضه الرخامية، وقد وقف عدد من الرجال عراة حليقي الرؤوس، رافعي الأيدي والأوجه إلى السماء بالدعاء والاستغفار. وتلاشت الجدران من حوله، وتكاثر عدد الرجال، واتسعت القاعة حتى لم تعد لها حدود.. ووقف هو في ركن مظلم يحاول اختراق الطوفان البشري للخروج منه دون جدوى.
وانحبست أنفاسه، وأحس بالضيق حتى كاد ينفجر.. وحينئذ فتح عينيه ليجد نفسه في الخيمة متكئاً إلى جوف الصخرة، وقد تصبب العرق من جميع مسام جلده.
وفتح عينيه لينظر حوله. وبعد لحظة من استرجاع الذاكرة تبين أنه في الواحة وأن الوقت ضحى والشمس حامية اللهب.
كانت تاج قد سبقته إلى البئر، فعلقت عباءتها على مدخله حتى يعرف أنها هناك، ووقفت تصب على جسدها الملتهب من دلو الماء بارد وتستلذ كل قطرة منه تقع على وجهها وعينيها ورأسها ونهديها، وتتنفس بعمق وانتعاش، ورداء الماء الشفاف يعانقها بشغف...
ووضعت الدول على حافة البئر، ووقفعت على الصخرة الملساء تنظر إلى قطرات الماء تترقرق على جلدها الخمري كالجواهر، لتستقر في البركة المتجمعة على الصخرة. وخطر لها أن تنظر إلى جسدها في صفحة الماء، فقد اشتاقت غريزتها الأنثوية إلى النظر في مرآة...
وبينما هي كذلك، إذ خامرها إحساس غريب بأن أحداً يراقبها، فتوتر بدنها ورفعت يدها بحركة غريزية لتغطى ثدييها...
ونظرت حواليها من خلال سعف النخيل، فإذا رجل صحراوي ذو عباءة وعمامة زرقاوين، لا تبدو من وجهه إلا عيناه الثاقبتان ينظر إليها دون حركة.
وأطلقت شهقة، وهمت بالفرار، فانقض الرجل عليها كالفهد، وطوق خصرها بيمناه وأقفل فمها بيسراه، وجذبها نحو زرب النخيل قائلاً:
- لا تخافي! لا حاجة بك إلى إيقاظه. هل تذكرينني؟ أنا الذي رأيتك حين جئت للقافلة، ومن ثم عشقتك. وقلت في نفسي لا يمكن أن أعيش بدونك! وقد انفصلت عن القافلة وعدت لآخذك.
واستطاعت تاج أن تعض كفه وتصرخ:
- علي! علي!
ولكنه بادرها بإقفال فمها بإدخال حافة يده فيه بقوة بحيث لا تستطيع إقفاله وسمع الدكتور نادر صرختها فخرج من الخيمة مسرعاً ينادي:
- تاج! تاج! أين أنت!؟
ولما لم تجب، قصد البئر حيث خيل إليه أن الصوت جاء من تلك الناحية. وعلى باب البئر رأى عباءتها، فوقف يتسمع وينادي بصوت خفيض.
- تاج! تاج! أنت هنا؟
وحين لم تجب أزاح العباءة وهم بالدخول. وقبل أن يدرك الموقف، أطلق عليه البدوي نار مسدسه فاندفع بقوة هائلة إلى الوراء، ووقع على ظهره فوق حقف رمل، والدم يفور من ثقب رصاصة في صدره...
وأطلق الرجل سراح تاج فقفزت نحو العباءة بسرعة، ثم أسرعت نحو الدكتور نادر، فأمسكت بوجهه بين يديها وحركته وهي تصرخ فيه:
- علي! علي! لا تمت، أرجوك! لن أغفر لنفسي موتك ما حييت!
ثم أمسكت بكوعه وتحسست نبضه، وانحنت فوضعت أذنها اليمنى على صدره منصتة إلى دقات قلبه. ثم انهارت على جسده تبكي بدموع غزيرة.
وأحست بالرجل الملثم يقف وراءها، وقد ركز المسدس في حزامه، فالتفتت إليه وقد تحول حزنها إلى غضب، فصرخت في وجهه:
- أرأيت ما فعلت؟ قتلته أيها المجرم..! قتلت رجلاً لا يعوض بمليون من أمثالك أيها ال*****!
ووقفت مواجهة له تلعنه وتدق علي صدره بكلتي يديها في هسترية عنيفة لم توقظها منها إلا صفعة قوية من يده الخشنة على خدها. فسكتت وقد اصفر وجهها ونزل عليها حزن ثقيل.
واقتادها الرجل من يدها نحو الكهف صامتاً....
وعلى بابه دفعها فألقاها على الأرض داخله، ووقف عند قدميها ينزع ملابسه مبتدئاً بعمامته وطيلسانه. وظهر وجهه كاملاً كأنه منحوت نحاسي أو برونزي إلا ما كان من النظرة الحادة البارقة في عينيه...
وحينئذ فقط أحست تاج بالخطر... فدق قلبها بعنف، وبدأت تردد بداخلها كلمة لم تكن رددتها منذ دخولها الجامعة.
- يا إلهي! يا إلهي!
وانحنى الرجل عليها، فأمسك بصدر العباءة وشقها حتى النهاية، وأخرجها منها كما تخرج الموزة من قشرها، وقد التهبت عيناه بشرر الشهوة ال*****ية في أعنف مظاهرها...
ومر شريط سريع في مخيلها لينذرها: "لا تقاومي.. استرخي تماماً... لا تتوتري حتى لا يمزق الوحش... استسلمي فتلك أفضل طريقة لمقاومة الاغتصاب!".
كان الاغتصاب أشنع شيء يمكن أن تتصوره العذراء... ولم يكن يُخفيها الموت بقدر ما كان يخفيها أن يمزق جسمها وحش بشري...
ورمى هو عباءته بركن الخيمة، وركز عينيه المتوقدتين عليها، فأحست بالضعف الشديد وأغمي عليها...
وحين أفاقت أحست بضيق كبير، وأن حملاً كبيراً يثقل جسدها. وفتحت عينيها لتجد وجه الرجل على وجهها ساكناً لا يتحرك، وعينيه مفتوحتين بدون بريق حياة.
وارتعدت فرائضها! وبدون أن تدري انسحبت من تحت الجثة الباردة، وتركتها تقع على الأرض. وزحفت على يديها وركبتيها خارجة من الخيمة وقد لامس الرعب قلبها بقبضة باردة.
وركضت نحو البئر حيث كان الدكتور نادر يتخبط في دمه. ولكنها أدركت أنها عارية فعادت إلى الخيمة، ووقفت ببابها تحجب بيدها صدرها وتنظر إلى جثة الصحراوي الهامدة غير مصدقة أن صاحبها ميت... وانحنت فسحبت عباءتها من تحته وخرجت تعدو وتلبسها. وإلى جانب نخلة حول البئر لمحت شيئاً لم تره من قبل... ووقفت تركز عليه، فإذا هو حقيبة أوراق جلدية من نوع مألوف عندها. ووضعت وجهها بين يديها وكأنها تجمع أفكارها أو تطرد حلماً.
واقتربت من الحقيبة لترى "شارة" تعرفها جيداً كانت عبارة عن سفينة قديمة فوق كرة أرضية ملفوفة في ضباب أزرق.
وفتحت فمها للمفاجأة، وكأن ذاكرتها عادت فجأة إليها...
وأسرعت نحو النخلة فجثت، وتناولت الحقيبة لتجدها مصابة بحروق سطحية، وفتحتها وأخرجت محتوياتها فإذا هي منامة حريرية وفرشة أسنان وأدوات حلاقة، وغيرها من حاجات السفر القصير.
وأفرغت الحقيبة كلها لعلها تعثر على رأس خط لتبديد غموض وجود تلك الحقيبة فلم تجد. وقلبتها بين يديها فسقطت قطعة من الجلد المحروق لتكشف عن ورقة مكتوبة في جيب سري داخلها... وبدأت تقشر الجلد المحروق حتى كشفت عن الورقة فإذا هي طرف من رزمة أوراق مكتوبة برموز غريبة...
وتصفحت الأوراق ثم أعادتها إلى مكانها، فلمست أصابعها شيئاً بداخل الجيب السري. وأخرجته فإذا هو غلاف مستطيل مقفل بداخله لوح مرن... ومزقت الغلاف فإذا به بطاقة مستطيلة من البلاستيك بها ثقوب مستطيلة صغيرة...
وعادت تتصفح الأوراق بعناية هذه المرة، وكأنها تقرأ ما جاء فيها بنية حفظه. وفي النهاية وضعت البطاقة المثقبة وسط مساحة رمل أملس ووضعت كفيها حول عينيها وركزت عليها ما يقرب من تسعين ثانية وكأنها تصور وثيقة تحت الظلام.
وفي النهاية رفعت وجهها، ونظرت إلى السماء، ثم أغمضت عينيها، وعادت فراجعت البطاقة على مهل، وقد ارتعشت يداها من الانفعال.
وأعادت الأوراق والبطاقة إلى الجيب السري، ثم أعادت بقية الأشياء إلى داخل الحقيبة، وأقفلتها ووضعتها جانباً. وأخذت تحفر في الرمل حتى بدأ العرق يتقاطر من جبينها وذقنها، ووضعت الحقيبة في جوف الحفرة ثم بدأت تهيل الرمل عليها.
وفي نفس اللحظة قفز قلبها ودق بعنف وهي ترى قدمين يدخلان دائرة بصرها، ثم يقفان على حافة الحفرة. وارتجفت وهي ترفع عينيها نحو القادم بمهل وقد تجمدت قبضتاها على الرمل...
ووقعت عيناها على وجهه الملتحي وقد كسا الرمل جانبه الأيمن، وهرب عنه الدم واسودت محاجره، وكأنه شبح أوميت لفظه قبره... نظرت إليه وهي جامدة في مكانها دون أن تميزه. وأخيراً لاحظت خط الدم على صدره فارتعشت شفتاها وهي تحاول الكلام وقد اغرورقت عيناها، ثم ارتمت على ساقيه وانفجرت باكية بحرفة:
- علي! علي! حبيبي! شكراً لله! أنت ما زلت على قيد الحياة! شكراً لله!
وانخرطت في نحيب متقطع وهي ممسكة بساقيه تقبلهما وتبللهما بدموعها وهو واقف لا يتحرك كالتمثال.
وبردت حرقتها، فرفعت عينيها لترى من خلال دموعها وجهه الخشبي البارد. وتراجعت قليلاً، فمسحت دموعها بكمها، وعادت تنظر إليه وقد بدأت علامة استغراب تكسو وجهها الباكي وقالت:
- كيف تحس؟
وفتح فمه لأول مرة ليقول:
- ماذا فعل بك ذلك الوحش؟
وارتعشت بعض أعصاب وجهه وهو يجاهد لكتم انفعاله. كانت الغيرة القاتلة تحرق قلبه.
وطأطأت نحو الأرض وهي تقول:
- لاشيء يا علي، لاشيء بالمرة...
- لا تزيدي الطين بلة! لا تكذبي علي!
- أقسم لك يا علي! أقسم لك أنه لم يضع أصبعا عليَّ! وأنا طاهرة كما عرفتني. ثم رفعت رأسها إليه بعينين فيهما عتاب واستعطاف:
- علي، أرجوك... لا تضاعف آلامي! فقد ذقت ما فيه الكفاية. لقد كدت أخرج عن عقلي حين رأيتك طريحاً هناك والدم يفور من صدرك! فلا تفسد سعادتي بعودتك حياً إلي بغيرتك التي لا أساس لها...
- لا أساس لها؟ هل أطلق الرجل النار عليّ وانفرد بك لتقصيِّ عليه الأقاصيص؟
- الرجل الأزرق ميت!
- ميت؟!
وحركت رأسها دون أن تنطلق، فسأل:
- من قتله؟
- لا أدري.
- ألم تسمعي طلقة نار أو تري أحداً؟
وحركت رأسها بالنفي، ثم قالت:
- لقد أغمي علي حين طرحني أرضاً. وحين أفقت وجدته جثة هامدة.. لا أثر للدم في جسده. لابد أن أصيب بسكتة قلبية.
ورفعت عينيها فرأته يضع كفه على مكان الجرح، ويزم شفتيه مقاوماً سهام ألم حاد، فوقفت ومدت يدها نحو الجرح تريد تضميده فدفعها عنه باليد الأخرى، ومشى نحو الخيمة بخطوات مرتبكة كأنه تحت مفعول مخدر.
ودخل الخيمة فنظر إلى جثة الرجل العاري ثم أدخل قدمه تحت بطنه وقلبه على ظهره لينظر إليه. وحين لم يجد أثراً بجسده لجرح أو دم عاد إلى حيث تاج، ووقف وراءها وهي ما تزال في جلستها مسمرة عينيها على الأرض.
- ماذا كت تدفنين في تلك الحفرة؟
وفجأة أحس بضعف شديد، ووقع على ركبتيه حين عجزت ساقاه عن حمله.
والتفتت هي لتنظر إليه، وقد ظهر على وجهها الجد والعزم، وقالت:
- علي، أعتقد أن الوقت قد حان لأشرح لك بعض الغموض الذي أحاط بحياتك منذ لقائنا. وأكشف لك عن أسرار رحلتك هذه والهدف الحقيقي منها.
ونظر الدكتو نادر إليها بعينين شبه مقفلتين، فرأى وجهها يتماوج ويلفه ضباب كثيف، وشفتيها تتحركان دون أن يصله منهما صوت، ثم غابت عنه بانسدال ستار إغماء عميق عليه.


-20-
وما إن أغمض عينيه حتى عاوده حلم قديم ظل يطارده ويلاحقه، ليفيق منه في كل مرة بقلب يثقله الإحباط والألم الممزق... أما هذه المرة فقد كان هناك فرق.
رأى الدكتور نادر نفسه على شاطىء نفس الجزيرة الغناء، الباسقة النخيل الذهبية الرمال، يطارد تاجاً وهما عاريان تماماً. هي كفرس عذراء يلاحقها حصانها الفحل.. كانا يطفوان معاً بحركات تماوجية بطيئة كأنما يعدوان على سطح القمر بدون جاذبية.. ويمد الدكتور نادر يده فيكاد يلمس شعر تاج الحريري... وبعد لحظات استطاع تطويق خصرها بذراعيه.. وهوى الاثنان معاً على أرض واد معشب كثيف الكلأ، شديد الخضرة.. ودارت تاج لتواجهه وعلى وجهها ضحكة ساحرة تكشف عن أسنانها اللؤلؤية، وتملأ عينيها سعادة وترحيباً.. وتلامس جسماها، فشعت من ظهره حرارة سرعان ما غلفت جسمه بأكمله... وعانقها فدافعته عنها بضعف الأنثى المستسلمة، وهي تغطى وجهها بستار شعرها الليلي في دلال فتان... وأحس أن جلده قد رهف وتجدد، وجوارحه كلها استيقظت وسرت فيها الحياة... فإذا به يحس ويرى ويلمس ويستنشق ويسبح بروحه وبدنه داخل روح تاج وبدنها... تاج العذراء الملائكية التي أحبها بكل قطرة من دمه، ونبضة من عروقه... وأحس أنه لم يكن في حياته أقرب إليها مما هو الآن، وأن الهوة التي كانت تفرقهما قد اختفت، وأن الجدار الفولاذي الذي كان يقف عنيداً بينهما قد تذاوب كالشمع على النار.
وأزاح بيده خصلات الشعر عن وجهها الحيي، وأداره نحوه، ففتحت عينيها في عينيه كنوافذ على روحها لتنفذ إليها روحه..واقترب بوجهه منها، وتلامست شفتاهما تلامساً خفيفاً، تلاحما بعده في عناق ملتهب وكأنهما يرقصان على أصوات جوقة من ملايين عصافير الفردوس...







   

رد مع اقتباس
قديم 01-02-2007, 01:00 AM   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
سوسو 14
مُشرفة سابقة
 
إحصائيات العضو








سوسو 14 غير متواجد حالياً

 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 17
سوسو 14 is on a distinguished road

 

 

افتراضي رد : - - --^[ (الطوفان الأزرق -رواية من الخيال العلمي) ]^-- - -

21-

فتح الدكتور نادر عينيه على ضباب كثيف بدأ يرق مع سريان الانتعاش في إحساسه، فلاح له شبح وجه إنسان قريب منه للغاية... ولم يلبث أن بدأ الوجه يتماوج كأنه ينظر إليه في بركة ماء. وانقشع الضباب تماماً عن الوجه، فبرزت ملامحه قوية واضحة ترتسم عليها ابتسامة مشجعة... كان وجه أنثى شابة واسعة العينين زرقاءهما تكاد رانفةُ أنفها تلمس أنفه.
وتحركت شفتاها فسمع أصواتاً متداخلة مع أصداء عالية بعيدة... وابتعد عنه وجه الأنثى قليلاً فاستطاع أن يراه بأكمله.ورآها تخرج من تحت الغطاء فأدرك أنها كانت نائمة معه في فراشه، وأن جسدها العاري كان ملتصقاً بجسده.
وغابت في ركن ثم عادت تحمل صينية عليها كأس به عصير برتقال. وجلست على طرف السرير، ووضعت الصينية على طاولة جنب الفراش، وضغطت زراً إلى جانب رأس نادر فارتفع نصف الفراش الأعلى، ومعه رأس نادر وصدره فناولته الكأس، وساعدته على شرب ما فيه. وأحس بالمشروب بارداً عذباً يداعب حنجرته الجافة.
وسرى مفعول العصير السحري في عروقه في الحال، فأحس باليقظة والتجدد في نشاطه... ونظر حواليه ليجد نفسه في غرفة مستديرة في منتهى الأناقة والغرابة كأنها إحدى غرف عصر الفضاء. الحيطان من زجاج مزخرف بأشكال متداخلة متشابكة كأحلام المخدرين، والسقف قبة زجاجية زرقاء، تصفي أشعة الشمس اللاهبة بالخارج لتُدخل ضوء بارداً فيه راحة للبصر والأعصاب.
ونظر إلى الفتاة التي كانت ما تزال عارية، دون ارتباك أو خجل، ودون أن يكون في جسدها الشاب ما يدعو إلى الخجل أو الاستحياء.. كان شعرها الرملي اللون يتدلى وراءها قوياً كذيل فرس أشقر في تناسق مع بشرتها الذهبية.
وأحس بفقدان حاسة الزمن، وأنه في تلك اللحظة بدون ذاكرة ولا ماض...
ورفع عينيه فوقعتا في زرقة عينيها الواسعتين المليئتين صراحة وقوة، وسأل:
- أين أنا؟
- ستعرف قريباً..
قالتها بلكنة ويلز الجميلة، فسأل:
- من أنت؟
- أنا ممرضتك ومرافقتك. كيف تحس الآن؟
- تائه.!.
فابتسمت لتنفرج شفتاها عن أعذب ثغر رآه، ثم قالت، وهي تنزع عن جسده الغطاء وتشعل نوراً مستطيلاً معلقاً فوق فراشه:
- سوف تجد نفسك سريعاً. هذه حالة عارضة.
ثم أشارت إلى الضوء قائلة:
- حمامك الشمسي. بعد قليل سيأتي الطبيب لفحصك.
ثم غابت بغرفة جانبية وعادت لابسة قميصاً أبيض قصير الأكمام يعانق صدرها وخصرها، وبنطلوناً في نفس اللون واسع الفتحتين، فأمسكت بيده وطلبت منه أن ينبطح على وجهه ليأخذ ظهره نصيبه من الشعاع.
وعند نهاية الحمام عاد إلى وضعه السابق، وغيرت الممرضة الأزُر تحته، ثم جاءت بأدوات الحلاقة، واقتربت بوجهها من وجهه:
- ساعة الحلاقة!
واستسلم هو ليديها الناعمتين وهي تحلق لحيته، وأنفاسها العطرة تمتزج بأنفاسه، وهو ينظر إلى عينيها الواسعتين، ويسأل:
- ما معنى كل هذا الغموض؟
- غموض مؤقت!
- إذا لم يكن مسموحاً لي بمعرفة أين أنا، فهل يمكن أن أعرف من أنت؟
- أنا كاثي، كاثي استيوارت.
- ذلك لا يكفي. لماذا نمت معي في فراشي؟
فتوقفت عن الحلاقة، وابتعدت قليلاً لتنظر إليه:
- نومي معك عارية لم يكن لأي سبب غرامي. الحقيقة أنه أحد طرق العلاج لمن هم في مثل حالتك.
- علاج؟
- نعم، لقد كنت في حالة نوم معلق، إذا أمكن استعمال هذا التعبير. كان جسدك منوماً. كل خلاياك كانت حية، ولكنها واقفة عن الحركة الحيوية. بمعنى أنه لا تسن، هل تفهمني؟
وحرك نادر رأسه طالباً الاستزادة:
- استمري، لماذا كل هذا؟
- لأنك تعرضت للمسة إشعاع خفيفة أحرقت بعض خلاياك الداخلية، فاضطررا إلى تبريد جسدك إلى درجة الجمود، وإجراء عملية إفسال خلايا بديلة عن تلك التي احترقت.
- هل نجحت العملية؟
- مائة في المائة.. اليوم آخر كشف لإطلاق سراحك.
- لي سؤال قد يكون محرجاً بالنسبة لك..
- لا شيء يحرجني... اسأل!
- قبل أن أستيقظ لأجد نفسي وجهاً لوجه معك، كنت أرى حلماً شديد الواقعية، حلمت أني أضاجع فتاة أحبها. هذا شيء في غاية الأهمية بالنسبة لي... هل كان بيننا أي اتصال؟
فقاطعته:
- اتصال بدني كامل... وإذا كان في بالك أنك خنت أحداً فلا تقلق.. فقد كان فكرك كله معها..وعادت إلى إلى تمام حلاقته، فأغمض عينيه منتشياً لما قالته، وكأن عبئاً هائلاً نزل عن كاهله.
وتذكر تاجاً، قفزت إلى وعيه فجأة كأنها لم تكن هناك من قبل... واغرورقتْ عيناه فابتعدت الممرضة عنه لتنظر إلى وجهه. وفتح عينيه فترقرقت دمعتان ساخنتان على خديه، ووقفت في حلقه غصة حامية.
ولامست أنامل كاثي الرقيقة خديهِ بمنديل رهيف، تمسح بح الخطوط الملتهبة وعلى وجهها نظرة إشفاق.
واعتدل في مكانه قائلاً:
- سامحيني.. ليس من عادتي الانتحاب بمحضر السيدات.
- لابأس عليك من ذلك... الدموع علامة على الصحة العاطفية.
ومدت يدها لتجمع أدوات الحلاقة، فأمسك بها.
- أتعرفين تاجاً؟
- تاج؟
- نعم... رفيقتي التي وجدتموني معها في الواحة. أين هي؟
- لا أدري. ولكن إذا انتظرت فسوف يأتي الدكتور مورينو ليكشف عنك. وربما كانت عنده بعض الأخبار.
وغابت ثم عادت لتقول:
- لابد أن تاجاً هذه تعني كثيراً بالنسبة إليك... فقد دأبت على تكرار اسمها منذ بدأت تعود إلى الوعي. كانت تملأ مشاعرك حتى وأنت بين ذراعي...

-22-
ولاح وجه رجل في ملابس طبية بيضاء على لوح زجاجي معلق أمام سرير الدكتور نادر. ونظر الرجل إلى نادر نظرة فاحصة ثم قال:
- كاثي.
- نعم يا دكتور.
- كيف مريضك؟
- في حالة حسنة.
- أنا قادم الآن.
واختفى الوجه من الشاشة الزجاجية. وبعد بعض لحظات انفتح باب في جانب الغرفة المستديرة، ودخل نفس الرجل. كانت في وجههى الأسمر الوسيم ابتسامة مشجعة. وسعى نحو الدكتور نادر بخطوات واسعة، ويده مبسوطة بالتحية، وصافحة وهو يضغط على أحد أزرار بلوح السرير، ليرفع نصفه الأعلى. وبادره الدكتور نادر:
- أين أنا يا دكتور؟
- ستعرف قريباً. لا تدع ذلك يقلقك، مهمتي هي إرجاعك إلى الصحة التامة.
ونظر إلى ساعته وهو يجسُّ نبضه، ثم وضع السماعة على صدره وظهره، وضرب بأصابعه هنا وهناك، وضغط على زر آخر ونظر إلى الشاشة الناصعة التي ارتسمت عليها خطوط متعددة الألوان. ثم أعاد نظارته إلى جيبه، وقال:
- لقد أصبح شفاؤك كاملاً! عليك الآن أن تستريح لتسترجع وزنك العادي ونشاطك وسوف تقوم كاثي بالإشراف المباشر عليك طوال فترة النقاهة.

-23-
وفي عصر ذلك اليوم استيقظ الدكتور نادر من قيلولته، فأحس بنشاط كبير وصحة متجددة. وجاءته كاثي بقهوة وبعض الحلويات، وجلست تشاركه أكلته المسائية.
ورن جرس موسيقي خافت، فضغطت كاثي على احد الأزرار إلى جانب السرير، وقالت شيئاً ثم عادت إلى ضغطه مرة أخرى، ثم التفتت إلى نادر قائلة:
- المفاجأة التي وعدك بها الدكتورمورينو، هل أنت مستعد؟
وخفق قلبه معتقداً أنها تاج...
وانفتح الباب، فدخل رجل طويل على عينيه نظارة ذهبية الإطار وابتسامة مألوفة لدى الدكتور نادر. ولم يكد هذا يصدق عينيه، فاعتدل في جلسته، ومد كلتي يديه للترحيب بزائره.
- الدكتور هالن... إيريك هالن!
ووضع الرجل يديه في يدي الدكتور نادر، وضغطهما بحرارة، وهو يقعد على كرسي إلى جانب السرير.
- علي، كيف أنت الآن؟
- أنا بخير... هذا الصباح قال الطبيب أنني شفيت تماماً... ولكن من أي مرض؟ لا أدري! قالت لي الممرضة أنني أصبت بالإشعاع كيف؟ لا أحد يريد الإجابة عن أسئلتي. وأنت؟ متى عدت إلى الظهور؟ لقد أثار اختفاؤك ضجة عالمية!
وأجاب الدكتور هالن:
- ستعرف كل شيء في حينه. أعرف أن برأسك ألف سؤال تريد الجواب عليها... وعندما تعرف أين أنت ستتوالد الأسئلة لتصبح ملايين.
- لقد أيقظت فضولي بغموضك.. وإذا كنت تخاف أن تفاجئني أو تصدمني بما سوف تقوله فلا تقلق.. لقد مررت خلال الأيام القلائل الماضية بتجربة عمر كامل... ولم يعد هناك ما يفاجئني..ومسح الدكتور هالن نظارته، ووضعها على عينيه، ونظر إلى نادر بتأمل صامت. ثم لَعَقَ شفتيه بلسانه، وقال ساهماً بعينيه في الفراغ:
- من أين سأبدأ؟ أعتقد أن البداية أحسن نقطة... وينبغي أن أنبهك إلى أن ما سأقوله شيء غير عادي... ولكنه حقيقة لا خيال فيها، وإن كانت أشبه ما تكون بالخيال...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر، فأمسك بطرفي اللحاف في توقع متوتر. واستأنف الدكتور هالن:
- سألتني متى عدت للظهور، في الحقيقة أنا لم أظهر، بل أنت الذي اختفيت. اختفيت بنفس الطريقة التي اختفيت بها أنا من الطائرة بين نيويورك والمغرب...
وفتح الدكتور نادر فمه ليسأل، فاستوقفه الدكتور هالن بحركة من يده.
- تم الاختفاء بالتعاون مع الطيار والملاح المنتميين للهيأة التي أنت ضيف عليها الآن. تنزل الطائرة إلى ارتفاع مناسب يقل معه الضغط الجوي، ويلقى بك منها بمظلة ليلتقطك أعوان الهيأة في نقطة معينة بالبحر أو الصحراء. وتتم العملية تحت تخدير شامل لبقية الركاب.
- كان ينبغي أن تسمع الضجة التي قامت حول اختفائك بلندن! كان لها نفع مباشر لناشر كتبك، فقد اختفت كلها من السوق، والمطابع تحسك ضلوعها لتجيب رغبة الجمهور الجائع لأخبارك وأفكارك.
- وما هي هذه الهيأة التي لها كل هذه القوة؟ وما هو قصدك من اختطافي أنا؟
فلست خبيراً في الإشعاع ولا أي علم مربح تجارياً.
- سأشرح لك. منذ بعض وعشرين سنة، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت هيأة من العلماء الفرار بمواهبهم وبحوثهم من أوربا إلى مكان مجهول يدفنون فيه كنزر نتاج العقل البشري وتراث الإنسان منذ بدأ يقلب وجهه في السماء.. كان خوفهم حقيقياً من قيام حرب ثالثة ذرية تمسح البشرية من الأرض وتقضي على خمسة آلاف سنة من الكدح العقلي.. فوقع اختيارهم على جبل في جوف واد شاسع بقلب الصحراء بعيد عن كل طريق، أطلقوا عيه اسم جبل الجودي.وبقي اتصالهم بالعالم الخارجي دائماً بطرق معقدة للحصول على المجلدات المهمة والسجلات القيمة والأشرطة الموسيقية والسينمائية التي تسجل حياة الإنسان وذخائر مواهبه. وبالتقدم السريع الذي حدث في العشرين سنة الأخيرة أمكن فيها إلى حد بعيد. وكبر المشروع ومعه الهيأة. وتم استقدام عدد كبير من العلماء الرواد في ميادينهم، والفنانين والأدباء والصناع المهرة في جميع المهن. وينبغي أن أعترف أن استقدام بعض أولئك لم يكن بالطرق التقليدية...
وابتسم وهو يشير للدكتور نادر ولنفسه ويقول:
- مثل استقدامنا نحن! ولكن بعد الاطلاع على ما يحدث في جبل الجودي يقرر الجميع البقاء، وينسون العالم الخارجي في خضم ما يحدث هنا من خوارق واكتشافات تجعل حياتهم السابقة شبحاً ضحلاً ميتاً.. وأنت رشحتك أبحاثك الطليعية في علم الإنسان لعضوية الهيأة. وبترشيحك هذا أصبحت شريكاً في أعظم مشروع! مشروع الإشراف على تشكيل مستقبل الإنسان.. بل على كتابة "سفر تكوين" جديد، لايَدَ للصدفة أو العشوائية فيه.
وسكت قليلاً ليجمع أفكاره، ويترك لكلامه فرصة لأخذ مفعوله، ثم استأنف:
- الإنسان كما تعرف أصبح الآن على مفترق الطرق بين طفرة تطور جديدة كالتي أخرجته من عصر الحلقة المفقودة إلى عصره البشري. القرائن كلها تدل على أن عقله قد نضج لقفز المرحلة. وقد استطاع علماء البيولوجيا هنا عن طريق بعض المواد الكيماوية الجديدة، وخاصة "النيروسين" أن ينشطوا بقية أجزاء المخ التي ظلت كسولة منذ تطور الإنسان الأول. وقد فتح هذا الكشف طاقات جديدة وعوالم وآفاق ضاربة في المجهول... ويمكن أن أقول إنه في عقل الإنسان من التقدم ما يوازي تقدمه المادي ألف سنة من الآن. هذا أصعب للشرح بدون تمثيل، وسوف ترى بنفسك حين تبدأ العمل، وتتعلم استعمال "معاذ".
وقاطع الدكتور نادر مستفسراً:
- "معاذ؟"
-نعم. "معاذ" ليس اسم شخص، بل اسم عقل اليكتروني بناه العلماء لخزن الكنوز البشرية في أصغر مساحة ممكنة، وبالتالي الإطلاع عليها في أسرع مدة ممكنة، وسوف أمثل لك على ذلك.
ونادى:
- كاثي!
ودخلت كاثي فأشار لها أن تجلس وراء مكتب على جانب السرير الآخر به مفاتيح كالتي على آلة الكتابة، فجلست مستعدة للضرب عليها. وأملى الدكتور هالن السؤال:
- المكتبة. نادر علي. عصر الإنسان.
وتحركت أصابع كاثي في صمت فإذا صور سريعة تشع على اللوح المعلق في مواجهة السرير في نهايتها يبدو مجلد العنوان: "عصر الإنسان، تأليف الدكتور علي نادر". والتفتت كاثي إلى الدكتور هالن الذي كان كان يحك جبينه بأصابعه كأنما يحاول أن يتذكر شيئاً، ثم قال:
- صفحة 130.
وانفتح الكتاب على الصفحة المطلوبة، والدكتور نادر فاغر فمه من الاستغراب والسرور. وقرأ هالن من الصفحة الفقرة الآتية:
"نحن نشعر أن هناك شيئاً حقيقياً بداخلنا هو نواتنا التي نقوم حولها. أجسادنا وحواسنا ودوافعنا كلها قشور لها. وقد حير الفلاسفة مصدرها وكيانها حتى لكأنها منفصلة عنا كأجساد. وحتى ولو أغرقنا أنفسنا في ظلام حالك وصمت عميق، وركزنا كل ما نملك من قوى عقلية عليها، فلن يزال هناك غبار كثيف يحيط بذلك الشيء الحاد اللماع الذي هو جوهرنا، والذي غطته العصور بغلاف سميك من الحاجات والدوافع المادية والبدنية أصبحت قبراً متحركاً دفن فيه الجوهر حياً، وما يزال يصرخ في أعماقنا للخروج والتحرر والانطلاق، فلا تجد صعوبة كبيرة في كبت صراخه أو الصمم عنه.
في فترات قليلة من حياة بعض الأفراد تطل تلك النواة، ذلك النور الوامض من وراء جدران جسده وجوارحه المثلمة البكماء، وذلك حين ينتصر عليه الإيمان. الإيمان بفكرة أو بقضية أو بموهبة. وعند ذلك تنتصر الروح وتنعتق من أسر البدن وتنطلق عارية تدفع بالجسد إلى الأخطار والهوايا لأنها أصبحت سيدته ولم يعد هو سيدها.
"وهذا ما دعا كثيراً من الفلاسفة إلى الانتحار وإعتاق أرواحهم من سجونها وسلاسلها البدنية.".
والتفت الدكتور هالن إلى نادر وقال بصوت حالم:
- ما يزال هذا المقطع يثير في نفسي أحاسيس غريبة مختلطة، منذ قرأته لأول مرة يوم وصلتني نسخة الكتاب هدية منك. ربما لأنه كان صدىً لما كنت أحس به حينئذ. وربما لأنه كان تعبيراً حياً عن شعور غامض ما كنت أستطيع التعبير عنه بهذا الوضوح.
وأشرق وجه الدكتور نادر بابتسامة وهو ينظر إلى الدكتور هالن، وقال:
- ما تزال الرجلَ اللطيفَ، صاحب الروح الشفافة...
فابتسم هالن، وفرك يديه وعاد إلى الحديث:
- ماذا كنا نقول؟ آه! كنت أحكي لك عن "معاذ". العقل الإلكتروني. المثال الذي أعطيتك ليس إلا جانباً صغيراً من وظائف معاذ. ويمكنني أن أصفه بأنه أكمل آلة صنعها مخلوق ناقص هو الإنسان! ومعاذ هو اختصار الإسم المطول: "مُجمَّع العلاقات الإلكترونية الذاتية". ويوجد بجبل الجودي هذا أكثر من خمسة آلاف عالم وعالمة في جميع ميادين المعرفة الإنسانية العقلية منها والعملية.. وكل هؤلاء موكلون بإطعام معاذ جميع ما في ميادينهم من معلومات، وما يضاف إليها كل يوم من بحوث واكتشافات جديدة. ويسمى هؤلاء "مبرمجون" لاختصاصهم في تصفية البحوث وإرجاعها إلى أبسط أصولها. وقد أصبحت أحشاؤه الآن تحتوي على مجمل المعرفة البشرية منذ بدأ الإنسان يفكر ويسجل. أطعمَهُ المبرمجون تاريخ الإنسان من فجر ميلاده حتى الآن. وكذلك فلسفته وأديانه.. أحلك عصوره وأبهاها، وعلوم المال والاقتصاد وأسواق الأسهم والأوراق المالية، وبه بدأنا نعرف مسبقاً ما سيحدث في العالم الرأسمالي من التغيرات، وبذلك أصبحت للمنظمة ثروة هائلة من الاستثمارات التي ينصح بها "معاذ". وقد أطعمناه ترجمات حياتنا وأسرارنا الشخصية وأحوالنا الصحية، فتنبأ بأمراضنا قبل أن تصيبنا، ووصف لنا الوقاية قبل العلاج، وأحاط بما يشغل عواطفنا وعقولنا، ونبهنا إلى عيوننا ونقائصنا، وأصبح الحجة الأولى والعقل المسير الأعلى للمنظمة. وقد أصبح طبيب نفسه، يكتشف أمراضه ويصحح ما يصيب بعض أعضائه من عطب أو خلل. فيغير قطعه، وينتج الجديد منها، ويشحم دواليبه ويزيت أنابيبه...
كان الدكتور نادر ينصب مبهور الأنفاس، وحين سكت هالن قال:
- لا أصدق كل هذا..!
- لم أتوقع منك ذلك.. أنا نفسي لم أصدقه حتى تأكدت بنفسي. معاذ الآن أصبح خارجاً عن كل سيطرة خاصة. سرعة آلياته الهائلة، وقدرته على مزج العلوم المتباعدة التي هضمها، والخروج من خليطها بنتائج مدهشة لا تَخْطُر على عقل عالم من أي ميدان، جعلته في مقدمة الجميع، وجعلت العلماء يلهثون خلفه، يحاولون اللحاق بالكشوف الجديدة التي ما يزال يلقي بها كل ثانية سواء في الطب أو الفضاء أو المعادن أو الكيمياء...
- هذا معناه أنكم هنا تسبقون العالم الخارجي بمراحل..
- أحياناً أفكر أنني سأستيقظ بعد لحظة لأجد نفسي أحلم أو أقرأ قصة خيالية...
- سمعتك تذكر "جبل الجودي"، أليس ذلك رمزاً إلى الجبل الذي رست عليه سفينة نوح؟
- بَلَى سمى العلماء الأولون هذا المكان بجبل الجودي للشبه الكبير بين قصتهم وقصة نوح.. هربوا من عالم أوشك على الغرق، هذه المرة في طوفان الإشعاع النووي! وأملهم أن يبقى هذا الجبل جزيرة آمنة داخل طوفان الموت القادم عند اندلاع الحرب الثالثة... جبل الجودي إذن رمز له دلالته!
- سؤال آخر، من المسؤول عن اختطافنا، أواستقدامنا إلى هنا؟
- يمكن أن أقول معاذ. ولكن مواهبنا هي المسؤولة الأولى في الحقيقة. تخصصي أنا في مقاومة الإشعاع، والتزامك الفلسفي بإنهاء عصر التضامن الديني وإعداد البشرية للطفرة التطوريه الجديدة. ثم نظر إلى ساعته ووقف باسطاً كفه لنادر:
- على أنا سعيد للغاية بوجودك بيننا .. سأعود إلى عملي وسوف أراك غداً، ينبغي أن ترتاح الآن.
وصافحه وهم بالخروج، فاستوقفه نادر قائلاً:
- إيريك.
- نعم.
- عندي سؤال أخير. أرجوك أن تجيبني عنه بكل صراحة.
- ما هو؟
- تاج، أين هي؟
- تاج تحت الإشراف الطبي. كانت أصيبت هي الأخرى بلمسة إشعاع.
- هل ستعيش؟
- الأطباء ساهرون عليها.
- هل ستشفى؟
- لا أدري. ولكن لا ينبغي أن تيأس، فعندنا من وسائل مقاومة الإشعاع ما لا يتوافر في العالم الخارجي مجتمعاً..ثم ألقى عليه نظرة عطف وأضاف:
- أرجوك، لا تقلق.. سأعملُ جهدي!
وأقفل الباب خلفه وترك نادراً وقد انسدلت غيمة حامية من الدمع على عينيه، فأشاح بوجهه حتى لا تراه "كاثي".


-25-
استيقظ الدكتور نادر مبكراً في الصباح الموالي. فتح عينيه داخل الغرفة البلورية المضاءة بأشعة زرقاء ناعمة فوجد نفسه على حافة الفراش الواسع. والتفت يميناً ليجد "كاثي" نائمة على طرف السرير بجانبه. كان منظرها وهي مغطاة بشعرها الذهبي تجسيماً للسلام والطفولة البريئة.
وكأنما أحست أن أحداً يراقبها، ففتحت عينيها الواسعتين، وابتسمت دون أن تتكلم، ومدت يدها نحوه فوضع عليها يده. قالت:
- كيف أصبحت؟
- بخير.
- أصابك كابوس مزعج، هل تتذكر شيئاً؟
- لا.
- أضطررتُ إلى إعطائك مسكناً حتى تكف عن الاستغاثة والارتعاش. كنت تسبح في العرق..
- غريب، لم أتذكر شيئاً!
ونهض من الفراش فوجد نفسه قادراً على الحركة دون ضعف. ودخل الحمام فاغتسل وحلق. وحين خرج كانت "كاثي" تنتظره بسلة في يديها. قالت:
- سنفطر في الهواء الطلق..
- فكرة حسنة.
وناولته قميصاً أبيض وبنطلوناً فارتداهما، وتبعها خارج الغرفة. انقفل الباب خلفهما آلياً فنظر الدكتور نادر حواليه ليرى ممراً طويلاً كأنبوب زجاجي لماع أضواؤه مدفونة في حيطانه كأنهار من سائل الفسفور.
وأدهشه المنظر الرائع الذي وجد نفسه أمامه.. بحيرة واسعة زرقاء يحيط بها الأرز والسنديان، وحولها شواطىء رملية أنيقة وصخور بيضاء عالية تلقي على الرمال الذهبية ظلالها الكثيفة.
ونزع حذاءه وانطلق نحو الرمل. ثم رفع قميصه وخاض الماء فأنعشته برودته. والتفت إلى كاثي:
- هذه مفاجأة سارة!
- هذه أرض المفاجآت..
- أين يقع "الجودي" بالضبط؟ لاداعي للغموض الآن. فقد قال لي الدكتور هالن كل شيء..
ودخلت كاثي معه الماء وأمسكت بيده. ونظرت إليه:
- أنت واقف فوقه!
- وأين المدينة الصاخبة وآلاف العلماء الذين تحدث عنهم هالن؟
أشارت بعينها إلى البحيرة.
- تحت تلك الصخرة يوجد عالم بأسره.. عالم في "كبسول" مصغر... يمكنك أن تسميه "جينا" حضارياً أو خليةً حية تحتوي على جميع خصائص الإنسان الذي يعمر الأرض الآن.. ولو مسحت حرب ذرية الوجود البشري بكامله اليوم، لاستطاع ما في قلب أن يعيد الحياة من جديد.. لنا وسائل مكافحة الإشعاع، وإرجاع الوظائف الطبيعية إلى النبات، والخصب للتربة، والنقاء للماء والهواء...ولنا القدرة على إعمار الأرض من جديد.. إلا أن الإنسانية القادمة ستكون أكثر انتظاماً، وأقدر على تركيز عبقريتها على الحياة بدل الخراب والموت.
ونظر الدكتور نادر إلى عينيها المتوقدتين حماساً، ثم وضع ذراعه حول كتفيها، وضمها إليه برفق وإعجاب:
- أرجو ألا يكون ما تقولينه من صنع الخيال..
- كل المشاريع العظيمة كانت من صنع الخيال... ولكن "جبل الجودي" حقيقة واقعه. وسوف ترين بنفسك... وهبت نسمة عليلة جعدت وجه البحيرة. وداعبت وجه نادر وعبثت بخصلات من شعر كاثي الحريري. واستنشق الاثنان ملء رئتيهما منه، قال نادر:
- آه! هذه هي الحياة.. لو بقيت هنا شهراً واحداً فسأضمن نقاء رئتي من سخام لندن!
وضحكت كاثي وقالت:







   

رد مع اقتباس
قديم 01-02-2007, 01:01 AM   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
سوسو 14
مُشرفة سابقة
 
إحصائيات العضو








سوسو 14 غير متواجد حالياً

 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 17
سوسو 14 is on a distinguished road

 

 

افتراضي رد : - - --^[ (الطوفان الأزرق -رواية من الخيال العلمي) ]^-- - -

- ولو بقيت هنا أكثر لضمنت نقاء عقلك من فوضى العالم الخارجي!
وابتسم الدكتور نادر ثم قال:
- أنا جائع...
- لنفطر إذن.
وخرجا من البحيرة إلى حيث كانت كاثي قد فرشت إزاراً ووضعت عليه أواني الفطور فجلسا متقابلين..وشرد ذهن الدكتور نادر، وقد عادت إليه ذكريات تاج، فتجهم وجهه وكف عن الحديث..
في لمحة بارقة عبرت خياله صورة تاج قاعدة أمامه تحت نخلة., ورأى في عينيها السوداوين نظرة عتاب على نسيانه لها، واستمتاعه بممرضته الجديدة...
وقرأت كاثي ما يجول بخاطره، فأخرجته من غفوته الحزينة بقولها:
- أرجو أن تتماثل تاج للشفاء قريباً...
وأشاح عنها بوجهه وهو يحاول مقاومة شعوره، فأضافت:
- كن على يقين أنها تحظى بعناية أمهر أطباء الإشعاع. الشيء الوحيد الذي لا يستطيعون القيام به هو تحويل الرماد إلى مادته الأصلية..
وبعد لحظة صمت قالت مغيرة الموضوع:
- سيأتي رئيس مبرمجي القطاع الأنثروبولوجي للترحيب بك رسمياً على جبل الجودي وسيأخذك للفطور مع فرقته لتتعرف عليها، وتعرف مدى التقدم الذي حدث في ميدانك.
- هل سيكون الدكتور إيريك هالن هناك؟
- لا، ستراه بعد الظهر.
واستمرت تسرد عليه جدول أعماله للأسبوع القادم، وهو يستمع دون إنصات..
وبعد نهاية الفطور، جمعت الأواني في سلتها، وفتحت باباً في صخرة وضعت السلة بداخله حيث ابتلعها الظلام، ونظرت إلى نادر وقالت:
- والآن لنتجول حول البحيرة، إذا أردت.
وتمشيا على حافة البحيرة، ثم طلب منها أن يطل على العالم الخارجي فمشت به في طريق مرصوف برخام أحمر حتى نهايته، حيث أشرف من فوق صخرة على جرف شديد الانحدار وكأنه حائط عملاق.. ووقف ينظر إلى الأرض التي كانت بعيدة تحته وقد قامت فوقها صخور ملساء، كأنما انْحَسَر عنها مد الرمال، فبقيت واقفة بالعراء كموميات ضاربة في القدم. وطافت حولها العقبان والرخم، وعشعشت فوقها جوارح الفضاء...
ونظر إلى الأفق البعيد حيث تمتزج غبرة السماء بسراب الصحراء، فأحس كأنه في سفينة تجمد حولها محيط رملي هائج متوحش...
ودار رأسه، فأحس بمنبه حاد يوقظه من شروده دون أن يعرف مصدره. ووضع يده على قفاه حيث أحس المنبه، فلمس جسماً مسطحاً أجنبياً مزروعاً تحت جلده عند أسفل جمجمته.
ونظر إلى كاثي التي كانت تراقبه ببريق حاد في عينيها وقال:
- أكاد أقسم أن قطعة معدنية توجد تحت جلدي هنا...
- لا تقلق لذلك. نسيت أن أقول لك إنها طرف من علاجك.
- هل ستبقى هناك؟
- جميع العلماء هنا يحملون مثلها كذلك. ونسميها الملاك "الحارس"! وهي عبارة عن جهاز إرسال في منتهى الدقة والتعقيد يربطك بمعاذ، حيث تسجل جميع وظائف بدنك وذهنك. فإذا كان هناك خلل أو حركة غير عادية يرسل دماغك أمواجاً عن طريق "الحارس" إلى "معاذ" حيث تحلل في جزء من الثانية، ويرسل التنبيه إلى الخطر، أو يوصف العلاج أو الوقاية حسب ما يحدث..
- تعنين أن هذا الشيء سيبقى تحت جلدي دائماً؟
- سوف تنساه تماماً، كما تنسى ضرساً أو سناً صناعياً في فمك!
- ولماذا نبهني معاذ؟
- لابد أنك أصبت بالدوار من أثر الارتفاع، ويمكن ذلك أن يسبب سقوطك!
وعاد إلى شاطىء البحيرة حيث كانت الشمس تستحم داخل المياه الزبرجدية وتتخذ من سطحها الساكن مرآة هائلة.
ومرا بأفراد وجماعات من الشبان والشابات يسبحون أو يعرضون أجسامهم العارية للشمس، وكاثي تحييهم برأسها وتقدم بعضهم للدكتور نادر.
وسأل هذا وهو ينظر إلى السماء.
- إذا كانت هذه المنظمة لا يعرف عنها أحد شيئاً، ألا يمكن أن تُرى من الجو..؟
- أبداً! لقد استطعنا إخفاء الجبل بالأشعة السرابية اليت تجعل البحيرة والجبل يندمجان في الوادي العميق مثل أي كثيب من ملايين الكثبان الرملية في الصحراء..
ومر قريباً من الشاطىء مركب بخاري سريع يسحب وراءه فتاة تنزلق على الماء بمهارة عجيبة، فسأل نادر:
- ألا يشتغل هؤلاء؟
- هؤلاء في عطلة أو استراحة أو انتظار. العمل هنا يعتمد كثيراً على الفكر. وقد تنغلق الأبواب مدة طويلة عندما يصل الواحد إلى نهاية درب عقلي لا مخرج منه، فيأخذ عطلة للاستجمام والمراجعة...
ثم سرحت بعينيها نحو المركب المحلق حول طرف البحيرة البعيد، وقالت:
- بعض هؤلاء ينتظرون الوقت المناسب لعمليات التلقيح. الوقت المناسب بدنياً ونفسياً. وستعرف عماذا أتكلم عندما ترى حقلنا البشري.
ونظرا إليها دون أن يفهم:
- الحقل البشري؟
فحركت رأسها إيجاباً:
- نحن نصنع سكاننا الآن... نتحكم في ظروف الحمل والولادة والتربية...
- أتعنين أن كل ذلك يقع خارج رحم المرآة؟
- بالضبط!
وشرد خياله... وتذكر صخب المظاهرات التي اجتاحت لندن احتجاجاً على تجارب التناسل المخبري، وإنذار علماء البيولوجيا باحتمال نشوء جراثيم جديدة وخطيرة...
وجاءه صوت كاثي فأخرجه من تفكيره:
- فيم تفكر؟
وحرك رأسه نافياً كسولاً عن الشرح:
- لاشيء..
وأحس بضعف في بدنه، فعادت به كاثي إلى حيث كانا يجلسان.
وفي طريقهما سمعا أنيناً صادراً عن دغل كثيف، وحشرجة عنيفة كأن أحداً يقاتل مارداً جباراً، فتوقف الدكتور نادر ليستطلع الأمر. وسحبته كاثي من ذراعه وعلامة القلق والذعر على وجهها، وهي تلح على أن يغادر المكان. وتحول الأنين والحشرجة إلى صراخ حاد كأن إنساناً يعاني آلاماً مبرحة... وحاول نادر الانفكاك من يد كاثي ولكنه أحس بضعف أكثر فتوقف.
وخرج من وراء الدغل رجل لابس حلة رمادية ملتصقة ببدنه، وعلى صدره شارة رآها من قبل دون أن يذكر أين، وكانت عبارة عن مركب قديم فوق كرة أرضية.
كان الرجل ممسكاً قفاه بكلتي يديه، وقد تشوه وجهه، وغابت عيناه من الألم، وهو يجري في اتجاه باب مصعد.. وحين دخله انقفل الباب خلفه، ونزل المصعد بسرعة إلى أسفل...
ووقف الدكتور نادر ينظر مبهور الأنفاس إلى حيث كان الرجل، وقد زاد ضعفه للإرهاق العصبي الذي أصابه، وهو يراقب الرجل الغريب يتلوى كالحية المقطوعة الرأس! وكاد يسقط مغشياً عليه، فعانقته كاثي، وساعدته على البقاء واقفاً، ثم أخرجت عوداً صغيراً من جيب في صدرها، ومرت به تحت أنفه فعاد إلى وعيه.
ونزلا إلى غرفته حيث خلعت كاثي ملابسه وأدخلته فراشه.

-26-
وأفاق تدريجياً، فأحس بصدر كاثي الناهد ملتصقاً بظهره، وبذراعها تطوق خصره. وحين تحرك استيقظت هي الأخرى فاستدار ليقابلها. وبادرته بالسؤال:
- هل استرحت؟
وحرك رأسه دون أن ينطق، فأضافت:
- ذهب الضعف؟
فقبل رانفة أنفها وشفتيها.
قالت:
- الدكتور هالن قادم لزيارتك قريباً. ينبغي ألا يجدنا نائمين.
وقامت واختفت في الحمام، ثم عادت بصينية عليها فنجانان وإبريق.
وانفتح الباب، فدخل الدكتور هالن تشع الابتسامة من وراء نظارته البيضاء. فاقترب من سرير نادر وأمسك بيده وضغط عليها بحنان ثم جلس.
وجاءت كاثي فحيت الدكتور هالن بابتسامة، فقال هذا:
- هل يتعبك مريضك؟
- أحياناً!
ثم ابتسمت لنادر وقالت:
- لا، كنت أمزح فقط. الدكتور نادر مريض مثالي.
وجلست تصب القهوة. وضغطت زر الفراش فارتفع نصفه الأعلى وجلس الدكتور نادر، فناولته كاثي فنجانه. واحتسى منه رشفة، ثم وجه سؤالاً للدكتور هالن:
- هل من خبر؟
- تعني عن تاج؟
ووضع هالن الفنجان من يده وهو يقول:
- ذلك ما جئت من أجله. التقرير الطبي كان مشجعاً للغاية. تاج أصبحت خارج منطقة الخطر..
ودار رأس نادر وارتعشت يداه حتى كاد الفنجان ينذلق على اللحاف، فتداركته كاثي وأخذت منه الفنجان. واستأنف هالن:
- ربما أمكنك زيارتها في ظرف أسبوع.
ووضع نادر يده على يد هالن، ونظر إليه نظرة شكر مؤثرة أحس هالن عندها بالحرج، فنظر إلى ساعته وقام:
- ينبغي أن أتركك تستريح. هل تعني بك كاثي جيداً؟
- أحياناً أتساءل هل ما تفعله كله داخل في تعليمات الأطباء!
وضحك هالن وهو يقفل الباب وراءه.
وجلست كاثي إلى حاسوبها تدخل تقريرها اليومي. وتناول الدكتور نادر مجلداً لم يكن رآه من قبل على مائدة السرير إلى جانبه، وبدأ يتصفحه، فإذا هو دليل لأرقام الاتصال وطرق الاستعلام عن جميع نشاط الجودي.
والتفت إلى كاثي وهي تلمس بأصابعها الدقيقة مفاتيح الآلة، وتنظر إلى الشاشة البلورية أمامها.
- كاثي، هل يمكن أن أقاطعك؟
فحركت رأسها بالإيجاب وقال:
- هل كان ذلك الرجل حقيقة أم حلماً؟
- أي رجل؟
- الذي كان يصرخ ويعوي كال***** وراء أدغال البحيرة..
- كان حقيقة.
وظهر الجد على وجهها. فقال:
- لماذا لم تساعديه، وأنت ممرضة محترفة؟
وترددت قليلاً ثم قالت:
- أنت مسؤوليتي. وقد كنت ضعيفاً للغاية.
- لم أكن أسوأ منه حالاً!
- لا تقلق بالك يا عزيزي.. لعله من المصابين بانهيار عصبي لكثرة التركيز على عملية معقدة. يحدث ذلك كثيراً هنا.
- كان يظهر لي أنه مسوق بقوة جبارة نحو المصعد. وكلما حاول التحرر دفعته يد خفية إلى الأمام..
ونظرت إليه بعينين فيهما معان عدة، ثم عادت إلى آلتها.
وظهر على وجه الشاشة أمام نادر وجه طبيبه فتفحصه بعينين حادتين، ثم قال:
- دكتور نادر. لا ينبغي أن ترهق نفسك كثيراً بالتفكير العاطفي. سوف يؤخر ذلك شفاءك. حاول تسلية نفسك ببعض البرامج الفكاهية على هذه الشاشة. ستجد لائحتها في المجلد إلى جانبك. كاثي ستعلمك كيف تستعمل مفاتيح الاستعلام. ينبغي أن تشفى سريعاً لتتقابل مع زملائك في قسم الأنثروبولوجيا. هناك مؤتمر حيوي متصل بعملك يجري هذه الأيام. ومن الأحسن أن تحضر على الأقل نهايته، وتعرف النتائج التي توصلوا إليها.
ونظر الدكتور إلى كاثي التي كانت واقفة إلى جانب سرير نادر، ولوح تقارير حالته في يدها وهي مستعدة لكتابة التعليمات، ثم قال:
- مزيداً من الراحة. لا تعرضيه لأية تجارب عاطفية. سيمكن أن يقابل زملاءه في ظرف يومين.
وقبل أن يسأله الدكتور نادر عن حالة تاج تلاشت الصورة من فوق الشاشة. ووقفت كاثي تكتب التعليمات.
أحس الدكتور نادر بنشاط وحيوية جديدين ذلك الصباح الأزرق البارد. ومن نافذة الحمام دخلت نسمة صحراوية دافئة مع انعكاس أشعة الشمس على أوراق النباتات المتسلقة حول إطار النافذة.
كان ذلك يومه الكبير.
سيلتقى بالمبرمج الأول، وسيحضر مؤتمر المبرمجين العام الذي يدرس فيه تقدم البحوث العلمية في الجودي، والعالم الخارجي، وتوضع فيه أو تناقش السياسة الجديدة قبل أن يجري بها العمل.
وناولته كاثي كسوة خاصة كانت عبارة عن عباءة عربية بيضاء أحس فيها براحة وحرية. قالت له كاثي وهي تساعده على لبسها:
- هذه حلة المؤتمر الرسمية. يظهر أن لها أثراً خاصاً على مزاج لابسيها.
فرد الدكتور نادر وهو ينظر إلى نفسه في المرآة العريضة أمامه:
- بساطتها توحي ببساطة التفكير. المفكرون في المدنيات الكبرى بحاجة ماسة إلى جو خاص، يخرجهم من ضوضاء وفوضى العصر الحديث التي نزلت بالفلسفة إلى مستوى الطب النفسي الجماعي، بدل التركيز على المسائل الأكثر أهمية.
وغادرا الغرفة وكاثي تقوده إلى حيث انفتح أمامهما باب مصعد مربع، جدرانه من البلور المقوى، تشف عن الحيطان المزخرفة برسوم رومانية وفارسية وصينية وعربية حسب الطبقات التي يجتازها المصعد. وانقفل خلفهما الباب، ونزل المصعد نزولاً ناعماً، ولاحظ نادر أن المصعد عبارة عن مكعب لا يرتبط بحبال من فوق أو تحت ورفع عينيه ليرى نفقاً أزرق داكناً فوقه، ينتهى بمربع ناصع البياض، أدرك أنه يواجه الشمس. ونظر إلى تحت فإذا بئر مربع عميق لم يستطع رؤية قعره. كله مضاء بألوان تتعدد بتعدد الأدوار. وخامره إحساس غريب أنه يحلق في فضاء طبقاته أقواس قزح وأطواق من نور...
ووقف المصعد ثم تحرك إلى اليمين بنفس النعومة الانزلاقية التي نزل بها...
وبحث نادر بعينيه عن مكان الأزرار فلم يجد، وقرأت كاثي أفكاره فقالت:
- لا حاجة إلى لوح أرقام. ولا يمكن أي لوح أن يتسع للأماكن التي يمكن أن يصلها المصعد. وما عليك إلا أن تنطق باسم المكان في هذا "المسمع" ليذهب بك المصعد إليه.
وانزلق المصعد على مهل ثم توقف.
وظهر الدكتور إيريك هالن وراء الباب الزجاجي الذي انفتح بمجرد توقف المصعد. وتصافح الرجلان.
كان هو الآخر يلبس العباءة الفضفاضة البيضاء التي أظهرته في شكل محبب.
قال الدكتور هالن:
- سيقابلك الدكتور "كرونن"، وهو أحد الرواد الأولين ومن بناة جبل "مدينة الجودي" هو رئيس المؤتمر، مع أربعة آخرين من الشيوخ الذين أسسوا المكان والفكرة. سيتدوم المقابلة حوالي خمسة دقائق، بعدها ندخل جميعاً قاعة الحوار حيث سيلخص هو أعمال المؤتمر، ويعطي النتيجة.
كان الدكتور هالن يعطيه هذه المعلومات السريعة وهما في طريقهما إلى باب عال منحوت من قطعة خشب أسود واحدة، وعليها زخارف بارزة متداخلة.
وانفتح الباب بوقوفهما أمامه. وبقيت كاثي إلى الوراء، فسألها نادر بنظرة هل ستدخل؟ فحركت رأسها نافية.
وانقفل الباب خلفهما.
ونظر الدكتور نادر أمامه فإذا قاعة مستديرة مضاءة بنوافذ مستطيلة ملونة بعضها مفتوح على ضوء النهار، وقد تدلت ثريا ضخمة من سقفها، حرك الهواء قطراتها البلورية فأحدثت أصواتاً موسيقية خفيفة زادت في هيبة القاعة ووقارها.
ووقف خمسة شيوخ تقدم نحوهم الدكتور هالن وخلفه نادر. كانت على وجوههم ابتسامات خفيفة وهم يراقبون الدكتور نادر يتقدم على استحياء ليصافحهم واحداً واحداً، والدكتور هالن يقدمهم له بأسمائهم.
وأومأ أكبرهم سناً، الدكتور كرونن، لنادر وهالن أن يقعدا في كرسيين في مواجهة الشيوخ فجلسا صامتين.
وبدأ الدكتور كرونن:
- الدكتور على نادر، أرحب بكم هنا في جبل الجودي باسمي واسم زملائي القضاة الأربعة وباسم جميع من جعلوا جبل الجودي مشروعاً محسوساً لفكرة فلسفية مجردة. أعتقد أن الدكتور هالن كان له امتياز التعرف عليك قبل انضمامك إلينا. وأرجو أن يكون قد قال لك عن مشروعنا ما يكفي لإيقاظ حماسك، وإثارة رغبتك في البقاء والمشاركة معنا في هذا العمل. ونصيحتي في هذه الفترة هي أن تفتح عينيك وأذنيك لكل ما ترى وتسمع. وسوف ترى أشياء غريبة لن تفهمها في الحال، فلا تدعها تقلق راحتك. كل شيء سيتضح لك بعد حين، ومن حسن حظك أن تشفى من علتك في هذه الفترة لتحضر معنا نهاية المؤتمر، ففيه تقرر وترسم سياسة وأهداف جبل الجودي لمدة الأشهر الثلاثة القادمة. وسوف تقابل أعضاء "الأنثروغاّذ" الذين ستعمل معهم. لا تفاجأ إذا وجدتهم يعرفون عنك كل شيء! فليس بيننا أسرار...
ثم توقف قليلاً، ونظر إلى ساعة بصدر القاعة، وقال:
- حان وقت الاجتماع.
ووقف مادا يديه إلى الدكتور نادر، وأمسك بيديه معاً وهو ينظر إلى عينيه بعينين رماديتين فيهما أبوة وحب ويقول:
- بعد نهاية المؤتمر سيكون لنا وقت للاجتماع والحديث المسهب. "الجودي" كله معجب بعقلك. فاحكم علينا بعد المعرفة.
وثم التفت إلى الدكتور هالن وقال:
- ستقدمه الآن إلى جماعة "الأنثروعاذ" وسيجلس معهم.
وحرك الدكتور هالن رأسه بنعم، وخرج الرجال الأربعة خلف الدكتور كرونين.
وانفتح باب آخر دخل منه الشيوخ الخمسة بعباءاتهم الحريرية البيضاء، وشعورهم الشيباء وحولهم هالة من الوقار والهيبة.
وتوجه هالن مع الدكتور نادر نحو باب جانبي حيث خرجا إلى ممر مبلط برخام أخضر فاتح، ومنه دخلا بابا عليه رواق مخمل أسود ثقيل إلى قاعة فسيحة كملعب مصارعة الثيران، تتدرج منه الكراسي إلى تحت. ورفع عينيه ليرى قبة عالية ينفذ منها ضوء النهار دون أشعة الشمس.







   

رد مع اقتباس
قديم 01-02-2007, 01:02 AM   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
سوسو 14
مُشرفة سابقة
 
إحصائيات العضو








سوسو 14 غير متواجد حالياً

 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 17
سوسو 14 is on a distinguished road

 

 

افتراضي رد : - - --^[ (الطوفان الأزرق -رواية من الخيال العلمي) ]^-- - -

كانت الكراسي كلها مأخوذة، وأمام كل كرسي شارة الاختصاص واسم القسم. وقرأ الدكتور نادر على ظهر الكرسي الأخير الذي قابله عند دخوله الرواق "أنثروغاذ".
كان ينتظره بجانبه رجل في حوالي الخمسين، مصفف الشعر بطريقة حسنة، وقد تلوحت بشرته واسودت عيناه في عمق. بادر هذا الدكتور نادر، قبل أن يقدم له، باللغة العربية:
- الدكتور نادر، أهلاً وسهلاً... أنا الدكتور أديب إسكندر. من مصر. الإسكندرية. وتصافحا، فودعهما هالين قائلاً:
- أراك بعد نهاية الجلسة. الدكتور إسكندر صديق عزيز، ويعرف عنك الكثير. هو الآن رئيس "الأنثروعاذ" بالنيابة.
وذهب نحو مقعده من قسم "الأشعَّاذ".
وجلس نادر يتبادل التحيات مع زملائه الجدد.
وفي نفس اللحظة وقفت القاعة بمن فيها تحية للقضاة الخمسة الذين دخلوا واحداً بعد الآخر إلى صدر القاعة، حيث وقفوا صفاً واحداً في مواجهة المؤتمرين. وبقوا واقفين لحظة، ثم أومأ الدكتور كرونين برأسه بالتحية، وقعد الجميع.
وجال الدكتور نادر بعينيه داخل القاعة، ولاحظ الوجوه العديدة الذكية التي كات تتراوح أعمار أصحابها بين الثلاثين وما فوق السبعين، وهي تركز على شاشات صغيرة على مكاتبهم عليها رسوم وأرقام ورموز غريبة. وفي وسط القاعة كان أنبوب زجاجي يملأه سائل أحمر إلى النصف، ويتحرك صاعداً ونازلاً بطريقة ارتعارشية دائمة...
والتفت الدكتور نادر إلى الدكتور أديب إسكندر، وأشار بعينيه إلى الأنبوب فهمس له هذا:
- ذلك هو "المسياس". معناه المقياس السياسي في العالم الخارجي. السائل الأحمر يدل على ارتفاع أو انخفاض درجة الخطر الذري في العالم.
- وما معنى الحلقة الحمراء بأعلاه؟
- علامة الخطر.
- كيف يعمل هذا "المسياس"؟
- بطريقة آلية. هناك جهاز استقبال بأعلى الجودي يلتقط جميع الأخبار المذاعة في جميع أركان الأرض، وجميع الرسائل البرقية السرية من جميع المعسكرات، ويحل شفرتها إليكترونيا، ويحلل محتواها الخ، وبذلك يعطي درجة الحرارة السياسية في كل ثانية من الليل أو النهار.
وسمع طرق على المائدة، فسكت الجميع وارتفعت الأعين إلى حيث منصة الرئاسة.
وتنحنح الدكتور كرونين ثم بدأ بصوت ذهبي ناعم:
"بالأمس ختمنا الحوار، واليوم سنقدم ملخصاً للاتجاهات الثلاثة التي أسفر عنها المؤتمر. وسوف يقدم الدكتور فرايهان عرضاً عن وضع الاتجاه الأول".
والتفت إلى الرجل على يساره، فبدأ هذا يتصفح رزمة أوراق أمامه ثم تكلم.
"الاتجاه الأول، وهو رأى الأغلبية حتى الآن، رغم النقص البين بين أغلبية المؤتمر الفارط التي كانت تتجاوز السبعين في المائة، وأغلبية هذا المؤتمر التي نزلت إلى سبعة وستين في المائة. هذا الاتجاه هو الذي يحبذ "نظرية الإبقاء والانتظار". ويطبعه التفاؤل من أن الإنسانية في طريقها إلى النضج التدريجي الذي سينتشلها من اتجاهها السريع نحو البوار. والأدلة التي يرونها جديرة بالتقديم في هذا الحوار هي انتشار المواصلات العقلية التي ستعجل بوحدة الإنسان من أجل الصالح المشترك، وكذلك تردد "المسبرياس" في حلقته الحالية زمناً طويلاً مما يدل على أن هناك تقارباً بين المعسكرات المتضاربة في الشعور بخطر الحرب الشاملة. وهذا الاتجاه، أعني "الإبقاء على الإنسان الحالي وانتظار نضجه"، يرى أن البشرية الحالية، رغم اختلافها وتطاحنها، تؤدي وظيفاً حيوياً بالنسبة "للجودي"، وهو تغذيته بالمواهب الطبيعية في جميع الميادين، الشيء الذي ما كان "البيوعاذ" ليزودنا به بالسرعة الكافية. إلى جانب أن هناك تقدماً محسوساً في ميادين علمية كثيرة في الدول المتقدمة تقنياً، وإن كان يقف في طريقها الاتجاه العسكري، والخوف من جنون معسكر وتخريبه للمعسكر الآخر. ثم إنه ليس هناك تأكيد علمي لنجاح النظريتين الأُخريين..".
وسكت الدكتور "فرايهان" وجمع أوراقه ثم اتكأ إلى الوراء. فأشار الدكتور "كرونين" إلى زميله على يمينه قائلاً:
-"الاتجاه الثاني: "الاستيلاء والإصلاح" يلخصه الدكتور إيكويوتو".
وتحرك في مكانه رجل **** السحنة وقال:
"يرى أنصار نظرية "الاستيلاء والإصلاح" التي يؤيدها عشرون في المائة من أصوات المؤتمر، أن الإنسانية كما هي الآن منقسمة على نفسها موزعة الاتجاهات والمبادىء، تتحكم في أغلبيتها الدكتاتوريات الفردية والجماعية والنزعات الدينية والعنصرية، وتغسل دماغها أدوات الإعلام التي تخدم أغراض أقلية تستفيد من جهل البقية وغَبَاوتها، وتسوقها ضد صالحها، حيث تسكب منها أكثر ما يمكن. هذه الإنسانية ينبغي أن يقوم جبل الجودي بالاستيلاء عليها بإسكات جميع مصادر الطاقة، وتجريد جميع الأسلحة من خطرها سواء كانت كبيرة أم صغيرة، وتنويم الإنسانية كلها واقتراح اتحادها واشتراكها في عمل خالد واحد تعيش بعده في رغد وأمن، وبهذا ينتهي الضياع والخوف واستيلاء الشر. وحينئذ يمكن "لمعاذ" أن يوجه طاقة هذه الأرض كلها إلى غزو الأفلاك العليا يساعده في ذلك كل مخلوق بما يستطيع".
والتفت الدكتور كرونين لزميله الثالث فقدمه:
- "الدكتور إدريس عثمان يلخص اتجاه "الطوفان الأزرق" الذي تؤيده خمسة عشر في المائة من أصوات المؤتمر".
وبدأ الدكتور عثمان، وكان سودانياً حاد العينين:
"اتجاه الطوفان الأزرق هو أجرأ اتجاه حتى الآن. وخلاصته هي أن جبل الجودي أصبح خلية متكاملة متوازنة، تحمل في كيانها جميع الخصائص الإنسانية بحضارتها وتاريخها وفلسفتها وتقنيتها، وتختزن جميع ما حققته من تقدم علمي وفكري بشري وغيره، وفي قدرتها إعادة إنتاج كل هذا بطريقة أنظف وأكثر نظاماً واستقراراً وقوة من الإنسانية الموجودة الآن على الأرض، هذه الإنسانية التي تكاثرت بشكل مزعج للغاية، وانغرست فيها الخلافات الدينية التي نتج عنها ما نراه الآن من خلافات سياسية، وجنسية ومذهبية، وحواجز ثقافية تجعل تقدمها يدور في حلقات مقفلة لا يستطيع التحرر منها والمُضيَّ إلى الأمام...
وإذا كان "معاذ" قد بشر بطوفان جديد كالذي أصاب الحضارات القديمة حين أسنَتْ وتوقفت عن النمو والتطور من عهد نوح، فليس من الضروري انتظار هذا الطوفان الذي ربما فاجأنا في وقت غير مناسب، بل يجب أن نخلق نحن ذلك الطوفان بما لنا من وسائل علمية، تضمن نجاح العملية ونجاة نواة الإنسان الجديد في قلب هذا الجبل الذي سميناه بحق "الجودي" لذلك يكون الاقتراح أن يطلق الجودي على الكرة الأرضية شعاعه الأزرق السري الذي سيُفني البشرية كلها بطريقة رحيمة لا ألم فيها ولا خوف، ثم يقوم بعملية تنظيف الأرض من آثار الإشعاع، وبذلك يكون وظيف البشرية الفوضوية قد انتهى، ويبدأ دور البشرية الثانية التي أوشكت على اختراق حاجز تطور جديد لتقوم على أنقاضها، وتعمر الأرض من البداية".
وسكت الدكتور عثمان، وضغط على زر الميكروفون حتى لا تسمع عطسة كان يقاومها.
وتكلم الدكتور كرونين مقدماً زميله الرابع:
"الدكتور إيفانز له تعليق على الاتجاهات المذكورة".
وأومأ له فبدأ:
"يظهر من تعدد الاتجاهات أن خليتنا لم تنضج بعد، وأننا ما نزال نعاني من مخلفات وتناقضات ورواسب علمنا القديم الذي حاولنا التحرر منه منذ ربع قرن. وبيننا من ما تزال له عواطف وزوايا دافئة في قلبه للأماكن والأشخاص من أهل وأصدقاء في العالم القديم".
وسرح نادر متذكراً أهله وأصدقاءه في المغرب ولندن والولايات المتحدة، فارتعش قلبه شوقاً وحنيناً. وأحس بخطورة جبل الجودي كما لم يحس بها من قبل...
وعاد صوت الدكتور إيفانز الرتيب ليخرجه من شروده:
"وإلى أن تنضج الخلية، وربما لن يكون ذلك في المستقبل القريب، فسيبقى "الجودي" قائماً مستعداً لجميع المفاجآت التي قد يطلع علينا بها العالم القديم الأحمق الطائش.
"وقد يكون حظ "الجودي" من الوحدة أكثر حين يكبر جبل "البيوعاذ" الذي لا تربطه بالعالم القديم عاطفة تحيد برأيه عن السَّداد، وبتفكيره عن المنطق.".
وسكت الدكتور إيفانز، فقال الدكتور كرونين:
"قبل أن أعلن عن نهاية المؤتمر، يجب أن أقول إننا نسير في خط مستقيم نحو الغاية الأساسية، وهي تعجيل التطور، وإعادة ترتيب كوكبنا هذا، وإخراج سكانه من طور ال***** الذي يتناسل بلا وعي ولا تخطيط إلى طور الإنسان الذي قدر له أن يكون حتى يلعب الدور الإيجابي المرصود له بين سكان الكواكب والمجرات.
"وإذا كانت خليتنا لم تنضج بالدرجة التي توقعناها، فالقرائن كلها تشير إلى أننا في طريق النضج رغم بطئنا. ولا ينبغي أن يفت الانتظار في عضدنا، ما دمنا على المشرع الممتد نحو الجسر...
"وقبل أن أختم هذا المؤتمر، أود أن أرحب باسمكم بضيف جديد حل بالجودي، وهو عالم شاب معروفة بحوثه لديكم جميعاً في ميدان الأنثروبولوجيا. وهو أول من تنبأ باقتراب الطفرة التطورية الجديدة، وبوقوع هذه الطفرة بعد طوفان آخر يغمر الأرض، ضيفنا الكبير هو الدكتور علي نادر".
وضجت القاعة بالتصفيق، فوقف نادر في مكانه محرجاً للإطراء، وانحنى تحية للرئيس والحاضرين.
وقاطع الرئيس التصفيق بقوله:
"بعد انقضاض هذا الإجتماع مباشرة، سنجتمع بقاعة الاستقبالات في حفلة ترحيب بضيفنا الشاب الدكتور علي نادر".
وضرب على مائدته بمطرقة خشبية معلناً عن نهاية المؤتمر. وقام الحاضرون.
وفي قاعة الاستقبال وقف الرئيس كرونين والدكتور أديب إسكندر يستقبلان أعضاء الجودي ويقدمانهم بأسمائهم ورتبهم واختصاصاتهم للدكتور نادر. كان الجميع يحمل اسمه واسم مهنته على صدره مطرزاً.
وانشرحت نفس الدكتور نادر للدفء والمودة الإعجاب الذي أبداه نحوه جماعة العلماء، فشعر بأنه واحد منهم، وأن جبل الجودي ليس مدينة علمية نحاسية لا قلب لها ولا عاطفة.
وفتن بأوجه الحسان العديدات اللواتي قُدمن إليه كزميلات عالمات..
وحين قدم له الدكتور أديب إسكندر آنسة حمراء الشعر، رشيقة القوام، شفافة البشرة، وقفت أمامه على استحياء، قال الدكتور إسكندر:
- هذه كارول لاند كريب، إحدى زميلاتنا في أنثروعاذ.
وأمسك نادر بيدها الصغيرة، ونظر في عينيها الرماديتين وقال:
- أعتقد أنني يجب أن أراجع بعض معلوماتي الإحصائية.
وسألت كارول:
- لماذا؟
- من الإحصائيات الاجتماعية العديدة ثبت أن الفتيات الجميلات لا يصلن في سلم الدراسات العليا درجة عالية... كثيراً ما يفقدن الاهتمام في منتصف الطريق ويتزوجن ويقطعن الدراسة. وأنت دليل واضح على عدم صلاحية تلك النظرية.
وضحكت كارول والجماعة التي كانت تحيط بالدكتور نادر:
وجاءت فتاة أخرى ناهدة الصدر، ينطق جسدها بالحيوية، تحمل صينية بها بعض المشروبات، فالتقط نادر كأساً، ووقف ينتظرها أن تذهب ليهمس في أذن الدكتور هالن:
- هل هذه عالمة هي الأخرى؟
وضحك هذا محركاً رأسه بالنفي:
- هذه خادم فقط.
- لو كنت قلت لي إنها عالمة لزعزعت إيماني بجميع نظرياتي السابقة.
- كثير من نظرياتك السابقة سيتزعزع هنا! فلا تعتقد أن ذلك بعيد جداً.
وظهرت "كاثي" على الباب، فودع نادر مستقبليه، وصحبها نحو المصعد. وعلى بابه ودعه إيريك على أن يلتقيا في المساء.
-28-
ذهب الدكتور نادر تلك الليلة إلى فراشه منتفخ الرأس مشبعاً بالمفاجآت. ووضع رأسه على المخدة، وأقفل عينيه دون أن ينام رغم تعبه. كان يفكر في الأوجه والأحاديث والابتسامات والحُلَل المتعددة الألوان واللوحات الزيتية، والقباب المزخرفة برسوم فرعونية أو صينية أو رومانية أو عربية. وتداخلت الألوان والظلال والأصداء والأفكار في مخيلته فأحس بالإرهاق وعُسرِ الهضم الفكري...
وفي مثل هذه الحالات كان نادر يفر دائماً إلى فردوس خياله الأخضر. وأحس بالراحة والارتخاء، وهو يستعرض كثبان رمل جزيرته النائية، ليشرف من فوقها على شاطىء فسيح تسبح أطرافه في الضباب...
ورأى جسم تاج الخمري وهي خارجة من موجة زمردية بحركة بطيئة فاتحةً ذراعيها نحوه، وهو يركض بتماوج رشيق حالم نحوها، وملايين الأصوات الملائكية تهلل بلحن سماوي...
وتعانقا في الفضاء، فتلامس صدراهما وشفتاهما ونزلا متعانقين في لُطْف على مفرش ناعم، حيث ضمهما إليه بقوة وشوق، وأخذ ينتحب. وأحس بكاثي تلتصق بظهره، وتطوق خصره بذراعها وتدفن وجهها بين كتفيه.
ونام والوسادة مبتلة بدموعه...

-29-
فتح الدكتور نادر عينيه تلك الليلة على غرفة زرقاء، تتسلل من قبتها البلورية أحجام النجوم تتغامز في أفلاكها الأزلية هائمة في الفضاء، كأنها غير حقيقية.
والتفت نحو كاثي فإذا هي غارقة في سبات عميق، وذراعها يطوق خصره. وانسحب بحذر من تحت الذراع، وتسلل خارجاً من السرير. ثم التقط الدليل الضخم، ومشي على رؤوس بنانه نحو الحمام حيث أقفل الباب خلفه، وأشعل النور، وقعد على كرسي مستدير يتصفح الكتاب إلى أن وضع اصبعه على رقم مكتوب أمامه "مستشفى- قسم مقاومة الإشعاع- الحالات الخاصة" وحمل الكتاب ثم أطفأ النور وغادر الحمام إلى حيث كان الحاسوب. فجلس إليه ووضع الكتاب بجانبه، وأخذ يطبع العنوان والرقم. وظهرت صورة ممر طويل صفت على جوانبه عدة غرف.
وطبع نادر على اللوح اسم "محيي الدين- تاج" فظهرت صورة غرفة
خالية.
وضغط على زر مكتوب عليه "استرجاع" فتحركت الصور على الشاشة بطريقة عكسية سريعة، وعندما رأى أشباح أشخاص بالغرفة، ضغط على زر "عرض" فتوقفت الصور لتمُرَّ بسرعة الحياة العادية.
ورأى أربعة أطباء حول سرير تاج وهي عارية داخل خيمة من البلاستيك الشفاف، وقد هرب الدم من وجهها، وعلى فمها وأنفها قناع أوكسيجين تنتفخ رئته الصناعية وتتقلص. وفي ذراعها عرق صناعي يتدلى من زجاجة دم معلقة فوق السرير، فخفق قلبه بسرعة..
كانت عيون الأطباء الملثمين تنذر بالخطر والحيرة. وبدأت الرئة الصناعية تضعف، ودقات القلب المسجلة على الشاشة الخضراء تتباطأ.
ودخل أكثر الدكاترة سنا تحت الخيمة فوضع يده على صدرها تحت نهدها الأيسر، ثم خرج سريعاً وأشار إلى ممرضة ملثمة، فجاءته بحقنة وساعدته على حقنها في ذراعها.
وعاد التنفس. وتسارعت نبضات القلب قليلاً.
وتنهد الدكتور نادر وهو يتابع بعينيه حركات الدكتور.
وهبط قلبه حين انخفضت نبضات القلب وتقلصت الرئة، وبان على الدكاترة القلق، وهرع بعضهم إلى تحت الخيمة لتدليك القلب بالضغط على الصدر.
وماتت العلامات الكهربائية على الشاشة المستديرة الخضراء.. وتقلصت الرئة الصناعية للمرة الأخيرة.. ونزع الدكاترة أقنعتهم وقد بلها العرق، وخرجوا صموتاً خائبين من الغرفة، وجاءت الممرضة لتنزع الخيمة عن جثة تاج العارية، وتزيل القناع والعرَّق الصناعي، ثم تغطيها من قدميها إلى ما فوق وجهها بإزار أبيض.
أفاقت كاثي من نومها حين حاولت وضع ذراعها حول نادر فلم تجده. ونظرت حولها فوجدته متسمراً على الكرسي، متجمداً بنظرة تائهة في غرفة المستشفى على الشاشة المضاءة أمامه..
ونادته بصوت نائم فلم ينتبه. ورفعت صوتها قليلاً ليسمعها فلم يلتفت.
ونظرت إلى الشاشة والغرفة الخالية فرن في مخها جرس حاد! وقفزت من فوق السرير فضغطت زراً اختفت عنده الصورة، وأظلمت الشاشة. ووقفت أمام نادر تلبس ثوباً ليلياً وتخاطبه:
- عليّ..! عليّ..!
وأخيراً جثت عند قدميه وأمست بيديه:
- علي، أرجوك، ماذا حدث؟ ماذا رأيت على تلك الشاشة.
ولم يجب، فوقفت وأمسكت بوجهه بين يديها تحركه وتربت خديه، وهو ما يزال في غيبوبته. وعند ذلك هرعت بسرعة إلى لوح الأزرار فضغطت على زر أحمر ظهر بعده وجه الدكتور "مورينو" الأسمر على الشاشة.
وخاطبت كاثي الصورة:
- حالة استعجال! أعتقد أنها صدمة.
ورد الدكتور مورينو.
- سآتي في الحال.
وبعد بضع دقائق كان الدكتور علي نادر نائماً تحت مفعول منوم.

-31-
لم يدر الدكتور أين هو حين استيقظ. ونظر حواليه فرأى وجه الدكتور هالن يبتسم له، ويسأله:
- علي، هل تسمعني؟
وحرك نادر رأسه بالإيجاب، فقال هالن:
- لابد أنك رأيت على الشاشة ما حدث، فلا داعي لإعادته. كنت فقط أود لو وصلتك الأخبار بطريقة أفضل...
ولم يجب نادر. كان ينظر إلى صديقه نظرة غريب لغريب، وكأنه لا يفهم ما يقول.
ووقف هالن ويد نادر بين كفيه:
- أعتقد أنك ينبغي أن ترتاح الآن. إذا احتجت لأي شيء فما عليك إلا أن تنادي.
والتفت إلى كاثي وقال لها:
- لا تتركيه وحيداً...
وأحنت رأسها موافقة، فخرج الدكتور هالن وفي عينيه نظرة قلقة.
عادت إلى نادر ذكرى ما رآه على الشاشة فلمست قلبه يد باردة.. وانحنت عليه كاثي تسأله:
- هل آتيك بفطورك؟
ونهض من السرير دون أن يلقي بالا لسؤالها، فجاءته بعباءة لفتها حواليه، وسألته:
- هل تريد حماماً؟
وحرك رأسه بلا، فقالت:
- هل تريد شيئاً ما؟ أي شيء؟
- أريد أن أذهب إلى مكان حيث أكون وحيداً.. هل تأخذينني إلى البحيرة؟
فاستمهلته لحظة ضغطت عندها زراً وتكلمت في سماعة، ثم وضعتها وجاءت لتقول له:
- تعال نصعد إلى البحيرة.
كان الوقت أصيلاً وقد تعلقت الشمس الأُرجوانية بأغصان السنديان نازلة نحو كثبان الصحراء الغريبة. وانعكست ظلال الأغصان والأشعة خلفها على مرآة البحيرة الساكنة فأعطت للمكان جواً من الدعة والطمأنينة والأزلية..
وتجاوبت نفس نادر الغارقة في بحيرة من سائل لزج أسود مع أضواء الغروب الخافتة، وصمت الماء والنبات..
كانت كاثي تلاحقه ببصرها من بعيد خوف أن يفعل بنفسه شيئاً أو يقع في أزمة.
ومال نحو حافة الجبل، فمشى بين الأشجار العالية في ممرات عتمتها ظلال المساء. ووقف وراء صخرة ينظر إلى الأفق ال**** ترتسم عليه أشكال التلال والصخور العالية وقد توجت أعاليها خمرة الأفق..
وبقي في موقفه ذلك حتى كسته عتمة الليل. وأحس بقشعريرة الرطوبة المتساقطة تسري في عظامه. وأيقظته كاثي من تأمله بنحنحة خفيفة، فالتفت نحوها.
قالت: "أعتقد أنه من الأحسن أن ننزل. قد يؤثر عليك برد الليل".
واستسلم ليدها الناعمة فساقته إلى تحت.
واستعملت سحرها كله تلك الليلة لتطعمه حتى لا يقتل نفسه جوعاً. وجعلته يتناول بعض أقراص الفيتامين وأقراصاً أخرى مغذية. ونام تلك الليلة بدون أحلام..
وفي الصباح الموالي أحس حركة غير عادية من كاثي. فتح عينيه ليجدها مستعدة بأدوات الحلاقة. وتساءل فقالت:
- الرئيس كرونين قادم لزيارتك.
وأفطر الدكتور نادر بكأس قهوة سوداء، وجلس في عباءته البيضاء ينتظر زيارة ضيفه الكبير. وانفتح الباب فدخل الرجل المسن وقد زادت بشرته الناعمة بياضاً تحت ضوء النهار، ومال شعره الفضي إلى الزرقة.
وأمسك بيد الدكتور نادر بين يديه وقد أشرق وجهه بنظرة عطف وحنان، ثم جلس قبالته واقترب منه بكرسيه حتى كادت ركبتاهما تتلامسان.
ونطق الرجل:
- ولدي، أرى أنك تجتاز تجربة عاطفية قاسية.. لابد أن "تاجاً" كانت تعني الكثير بالنسبة إليك... صدقني إن ذهابها أحزن الجميع، ولو كان في مقدور أي طبيب إنقاذها لأنقذها أطباء الجودي.. ورجائي أن لا يكون أثر هذه الصدمة مخرباً بالنسبة إليك.. حاول أن تجعل من حرمانك قوة دافعة لإشباع روحك.. فذلك أعظم هدية تقدمها لروح تاج. سوف تعيش لتصل إلى سنّي. وسوف تتلقى كثيراً من الصدمات بعضها قد يكون ساحقاً، ولكن انتصار العقل على القلب لا يتم إلا بالانتصار على هذه الصدمات... وسوف تخرج من محنتك هذه متزناً مكتمل البناء النفسي.
وضغط على يديه مرة أخرى، ثم وقف والتفت إلى كاثي وقال:
- هل تحتاجين إلى شيء؟
- لا، كل شيء على ما يرام.
وصافح الدكتور نادر، وربت كتفه، فشكره هذا على زيارته، وصحبه حتى الباب.

-33-
ومرت أيام...
وغرق الدكتور علي نادر في عمله بمختبر "الأنثروعاذ" حيث قدمه الدكتور أديب إسكندر إلى جميع أعضاء المركز، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه من اكتشافات علمية ماكانت لتخطر على باله.
وصغر في عين نفسه وهو يقرأ من الألواح الإلكترونية المضاءة، أو يتفرج على الأفلام أو يستمع إلى الأشرطة التي تسجل التقدم الباهر في ميدان كان يعتقد أنه وصل النهاية فيه...
ووقف في نهاية يوم طويل يسأل الدكتور إسكندر:
- لماذا جئتم بي إلى هنا وعندكم كل هذا؟ إنني أبدو إلى جانبكم بدائي المعرفة.
فابتسم الدكتور إسكندر وأجاب:
- هذا ليس من عمل عالم واحد. وفي الحقيقة ليس من عمل أية مجموعة من العلماء. العمل الذي ترى قام به "معاذ". الفضل الوحيد الذي يمكن أن يرجع لنا وللعلماء قبلنا هو أنهم برمجوا "معاذ" بكل ما كُتبَ وسُجل وصُور في ميدان الأنثروبولوجيا. وقد قام معاذ بالباقي.
- كيف؟
- معاذ لا يكتفي بخزن المعلومات وإعطائها عند الحاجة إليها، بل إنه مُبرمج بالقدرة على المقارنة والاستبطان والاستنتاج العلمي... الشيء الذي لا يمكن لعالم وحده أن يقوم به بصفة أو بأخرى. وذلك لمجرد أن معاذ أكبر من الإنسان، أي إنسان.. ولمعاذ امتياز آخر، وهو الحرية المطلقة في استعمال جميع فروع المعرفة البشرية الأُخرى التي تملأ جوفه. وليس هناك دماغ بشري يحتوي ما يحتوي عليه دماغ معاذ!
وتنهد الدكتور إسكندر في عجز عن وصف كل ما يملأ ذاكرته، ثم قال:
- لا يمكنني أن أحيطك علماً بكل قدرات "معاذ". أشعر باليأس وأنا أواجه هذه المهمة في بعض الأحيان. ويكفي أن أحكي لك الحكاية القديمة عن أول عقل إليكتروني تم تدشينه في إحدى الجامعات. وحضر العلماء والفلاسفة لرؤية المعجزة الجديدة وتجربتها. واحتاروا في أي سؤال يسألونه، فخرج فيلسوف عجوز بهذا الاقتراح: "لماذا لا نطرح عليه السؤال الأزلي: هل الله موجود؟" وفعلاً ألقوا عليه السؤال، وانتظر الجميع الجواب التاريخي.. ولمعت الأضواء بجميع الألوان على الآلة، وسمعت من جوفها أصوات غريبة، وبعد ثوان خرج الجواب فكان: "نعم، الآن!".
وابتسم الدكتور نادر، ونظر حوله ليرى أن كارول لاندكريب، الفتاة ذات الشعر الأحمر قد انضمت إليهما.
وخرج الثلاثة للعشاء في مطعم الجودي.

-35-
وتم تدريب الدكتور نادر على استعمال "أنثروعاذ" وبدأ تفكيره ينتظم، والفوضى والضباب اللذان كانا يخيمان على عقله يتلاشيان..
وانتقل بعد آخر اختبار طبى إلى مسكن آخر يشرف على البحيرة من جهة الغرب، وعلى الصحراء من ناحية الشرق.
وودعته كاثي على باب غرفته الأولى، فأمسك بيديها وقال:
- هل معنى هذا أننا سنفترق؟
فابتسمت وقالت:
- علاقتنا كانت طبية محضة... ولكن إذا رغبت في استمرارها اجتماعياً فليس لي مانع.
ونظر إلى كارول التي كات مكلفة بترحيله إلى مقره الجديد، ثم إلى كاثي وضغط على يدها وقال:
- سأتصل بك.
وألقت كاثي على كارول نظرة ذات معنى، ثم نظرت إليه مبتسمة وقالت غير مقتنعة:
- أكيد!
وذهب الدكتور نادر إلى مسكنه الجديد حيث وجده أوسع وآنق. كانت غرفة جلوسه مستديرة مؤثثة بأرائك وحشايا بيضاء وسوداء، وقد كست الأرض زريبة سميكة بيضاء. وانفتحت واجهة غرفة الجلوس الزجاجية على منظر البحيرة.
ووقفت كارول لاندكريب تطلعه خفايا المكان، وكيف يستعمل الأدوات الإلكترونية الكثيرة لتسهيل حياته.
كان الوقت مساء، ووميض أشعة الشمس في البحيرة قوياً. ولاحظت كارول أن نادر يضيق عينيه ويجعد جبهته لتفادي قوة الضوء، فضغطت على زر فَتَلونت الزجاجة الأمامية بلون أرق فاتح يكسر الأشعة.
وسارت به بين الأقواس المنحنية الواسعة، ففتحت له باب بيت النوم ثم الحمام، ثم المكتبة التي كانت عبارة عن كرسي مريح للغاية يتحرك بحركة الجالس عليه، وإلى جانبه لوح مفاتيح وأزرار، وأمامه شاشة بيضاء مربعة.
كان ينظر إليها وهي تشرح له بكفاءة وثقة بنفسها وبكل كلمة تقولها، وقد برز صدرها الصغيرة داخل القميص الحريري الفضي، وانعقد شعرها الأحمر وراءها وكأنه شعلة نار! وأحست أنه ينظر إلى عمق عينيها الرماديتين، دون أن ينصت إلى شرحها فتورد وجهها اللبني واستمرت في الكلام متلعثمة وعيناها إلى الأرض.
ووضع يده على كتفها فرفعت عينيها نحوه، ولم تنطق بشيء. ووضع اليد الأخرى على كتفها الثانية واجتذبها نحوه، وطبع على شفتيها قبلة خفيفة.
وحين ابتعد عنها سألت بدلال:
- لأجل ماذا؟
- لأشكرك على مساعدتك لي في استقراري بمسكني الجديد.
- كلمة شكر كانت تكفي...
- القبلة أحلى من الكلمة!
وضحكت كارول وقد برقت عيناها...







   

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

منتديات بنات
الترحيب و الاجتماعيات - دردشة - فضفضة و تجارب - المنتدى الاسلامي - اناقة و موضة - ميك اب و تسريحات - العناية بالشعر - العناية بالبشرة - تزيين العروسة - منتدى الرشاقة - صحة المرأة - قصص وروايات - مسنجر وتوبيكات - كمبيوتر وانترنت - الاعشاب و الطب البديل - الطبخ - وصفات الطبخ - وصفات الحلويات - جاليري الفنون - الاسره - التدبير المنزلي - الاعمال اليدوية - قسم الديكور - صور و اخبار و طرائف - المنتدى الادبي - العاب و مسابقات - المكتبة
سيدات طبخ قمصان فساتين منتدى بنات تسريحات حلويات العناية بالبشرة المراة اسماء بنات العاب بنات كروشيه العاب موقع بنات ستائر قصات شعر 2009 مطابخ الموضة اعمال يدوية الديكور رجيم مطبخ العائلة العاب فلاش صور منتدي منتديات بنات انتريهات صور اطفال ملابس طرائف ميك اب bnaat مفارش الحياة الزوجية لفات طرح محجبات مطبخ منال لانجيري مسكات وصفات اكلات حواء خلفيات ورسائل للجوال حل مشاكل الكمبيوتر والانترنت صور مسنجر

الساعة الآن 11:22 AM.


privacy-policy

Powered by vBulletin Version 4.2.0
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd .