البشرى الأولى وهى منبع البشريات بشرى "وبشِّر المؤمنين"
وهذه البشرى الأولى وهى التى نبعت منها كل البشريات و أسميناها منبع البشريات لأنها البشرى التى أمر الله تعالى حبيبه فيها أن يبشرنا بفضل الله الكبير علينا فقضى عمره الشريف ولم يترك مناسبة فيها البشرى إلا وساقها لنا وعرفنا بها فحببنا فى الله وبشرنا بفضل الله بل ومن سعة فضل الله علينا أنه جعل تبشيرنا على يد حبيبه ومصطفاه ليس أمراً عارضاً مع كمال علمه سبحانه بحبِّه لنا وعطفه علينا بل جعلها وظيفة له يقوم بها بأمر الله ما استطاع لذلك سبيلا فصار تبشير رسول الله لنا من النعم التى أنعم الله علينا بها وأمر حبيبه فى أن يقوم بها للمؤمنين ويوالينا بها كل وقت وحين قال{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً}فكيف يتأتى لنا شكره أو يمكننا أن نجزيه ذرة مما تفضل به علينا وقدمه لنا فاللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وأجزه عنا خير ما جزيت نبياً أو رسولاً عن أمته ومن كل هذا الفضل العظيم الذى فوق التخصيص والتعميم والذى يتعدى حدود الخيال والمفاهيم أتت جميع البشريات من الله العلى العظيم ساقها لنا نبيه الرؤوف الرحيم ونذكر شيئاً من أقوال الصالحين فى البشرى فمنها قول أحدهم:
تبسم ثغر الكون عن لؤلؤ الرفد فبشر أخا الإسلام بالرفق والوعد
آى القران جاءت بالذكر والرشد وأفراح إكرامات الربِّ ذي المجد
ما نطق عن هوىٍ قد جاء بالسعد وبشريات تعالت عن العدِّ والحدِّ
وقال الآخر مشجعاً الأمة على نشر البشرى وإبعاد شبح الخوف والترهيب واستمالة الخلق للإسلام وإعادة البهجة إلى أهله فقال:
تحيا القلوب بأخبار مبشرةٍ وتنطفىء لو سمتها خوفاً وإرهابا
فبشّروا بكتابِ اللـه واجتمعوا مبشِّرين غلِّقوا للخوف أبوابا
عسى تعيدوا للإسلامِ بهجتَه ويهنا كلُّ عبد من خوفه ذابا
واتلوا من الذكر آيات مُفَرِّحَةً ياقومنا ابشروا إن الربَّ توَّابا
وقال أحد الصالحين :
أسعد معنى كئيبا منك يا أملى حتى أفوز بلا كد ولا كسب
فضلا تمن به من فيض عاطفة يا رحمة الله يا ذا المنهل العذب
إنظر إلى مغرم في لوعة وضنىَ أسعده يا سيدي بالود والقرب
أنت الرؤوف رحيم والغياث لمن ناداك متوسلا يرجو رضا الرب
أحي مُواتي بنظرات تجملنى بحلة النسب العالي إلى الأب
لي نسبة وذنوبي لست أحصوها ونسبتي لكمو يا سيدي حسبي
يا نعمة الله لي أمل ولا عمل أرجوه إلا عميم العفو من ربي
البشرى الثانية بشرى تكثير الحسنات وتقليل السيئات
وتمعنوا فى بشرى الآية وفى سرها يا إخوانى تجدوا عجباً عجابا فإن الله لم يقل ثواباً ولا أجراً بل قال{فَضْلاً}وهناك فرق بين الثواب والأجر وبين الفضل فالثواب والأجر يكون على حسب الموازين الربانية التى جعلها الله ثواباً وأجراً على الأعمال الصالحة فى الحياة الدنيوية وقد أعطى الله هذه اللائحة للكرام الكاتبين ليسجلوا بها أعمال المؤمنين ويحسبوا عليها حسابات المتقين والعابدين والصالحين لكن الله إدخر لهذه الأمة فوق الثواب والأجر: "الفضل" والفضل من الله لا يعلم مداه إلا الله وأول بشريات موازين الفضل الربانية تلك هى بشرى قوله تعالى{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}فأولها أن لا يظلمنا مثقال ذرة من الخير عملناها مهما تناهت فى صغرها أو دقتها ولو كنت حتى لا تدرى ولا تحس لها بقيمة فهو يعلمها ويجزيك عنها{وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ السيدة عَائِشَةَ رضى الله عنها أَعْطَتْ سَائِلا حَبَّةَ عِنَبٍ فَأَخَذَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ اسْتِحْقَارًا لَهَا فَقَالَتْ لَهُ زَجْرًا: كَمْ فِي هَذِهِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}[1]فالله يحاسب الأمم السابقة كلها بالعدل أما أمة رسول الله فحسابها بالفضل ولذلك لا يستطيع أحد من السابقين أو اللاحقين أو الملائكة المقربين أن يعرف أو يطلع على عمل أقل رجل من المسلمين لأن عمله الذي تظنه حقيراً تجده عند الله عظيم{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}وتتوالى البشريات فى الآية وتأتى خصوصية أخرى فضلاً من الله لهذه الأمة وعناية{وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}وهذه غاية الأجر ضعفين{وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }وتلك زيادة فى الخصوصية للأمة المحمدية فضلاً من الله لأتباع حبيبه ولذا ورد من فضل الله علينا فى حديثه القدسي أنه قال{وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً}مع أنه همَّ بسوء وشرٍّ لكن كونه حبس أعضاءه عن فعلها فهو بذلك قد جاهد نفسه ونظير هذا الجهاد يعطيه الله عليه حسنة{وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله سَيِّئَةً وَاحِدَةً}[2]ويعفو الله لمن تاب وأناب ورجع إلى الله وذلك لأن الله يأمر الكرام الكاتبين إذا سجلوا السيئة ألا يسارعوا فى تثبيتها بل يكتبوها ويتركوا للعبد الذي فعلها فرصة لعله يرجع إلى الله ويتوب إلى الله فيأمرهم الله بمحوها إذ يقول{يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}وقوله{فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ }[3]وهذا كله فى ميدان الأجر والثواب الذى هو فوق العقل والحساب أما ميدان الفضل فلا تعلمه الملائكة إن كان الكرام الكاتبين أو أهل عالين أو أهل عليين ولا حتى أهل اللوح المحفوظ وإنما الأمر مفوض إلى رب العالمين وإليه يشير الحديث القدسى{كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَىٰ سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ اللّهُ : إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ} [4]فما هذه السبعمائة ضعف؟ وأين تبلغ ؟ إن الله لم يقل سبعمائة أمثالها فلو كان ذلك لفهمنا أنه سبعمائة حسنة ولكن قال سبعمائة ضعف فهل يضاعفها الله سبعمائة مرة أتدرون لو ضوعف شيىء سبعمائة مرة كما يبلغ إحسبوا يا أهل الحساب أى لو ضاعفت رقماً ثم ضاعفته ثانية ثم ثالثة؟ فإنك لو ضاعفت رقما عشر مرات لصار أكبر من أصله ما يزيد عن ألف مرة[5]ولو ضاعفته عشرين لصار أكثر من مليون مثل فكم تبلغ مائة مرة فقط وأين تصل السبعمائة إذاً بل والله فوق هذا وأعظم و أعلى هل يتذكر أحدكم قصة الحكيم الذى إخترع لعبة الشطرنج فأراد ملك الصين مكافأته فطلب الحكيم أن يعطيه الملك حبوباً من القمح بمضاعفات مربعات اللعبة وهى أربعة وستون فاغتاظ الملك أنه طلب طلباً حقيراً منه فلما أصرَّ لم يجد الخزنة فى المملكة أعداداً من الحبوب تكفى أن يضاعف الحبة الأولى أربعة وستين مرة فمن الذي يعرف مقدار قيمة هذا الفضل الكبير ؟ أو من يستطيع أن يعرف جزاء الصوم مثلاً ؟من يستطيع معرفة حدود تلك البشرى لا يستطيع أحد معرفته من الأولين والآخرين ولا من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ولا حتى المقربين وذلك لأن الله نسب الفضل لذاته ثم عظَّم الفضل فأين يبلغ ما عظم الله لا أحدُ يعرف أبدا قال فى سورة الجمعة{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }وقد قال الشيخ/ أحمد بن على بن مشرف :
وصيح بكل العالمين فاحضروا وقيل قفوهم للحساب ليسئلوا
فذلك يوم لا تحد كروبه بوصف فان الأمر أدهى و أهول
يحاسب فيه المرء عن كل سعيه وكل يجازي بالذي كان يعمل
وتوزن أعمال العباد جميعها وقد فاز من ميزان تقواه يثقل
وفي الحسنات الأجر يلقى مضاعفاً وبالمثل تجزي السيئات وتعدل
ولا يدرك الغفران من مات مشركاً وأعمالـه مردودةٌ ليس تقبل
ويغفر غير الشرك ربي لمن يشاء وحسن الرجا والظن في اللَه أجمل
وان جنان الخلد تبقى ومن بها مقيماً على طول المدى ليس يرحل
أعدَّت لمن يخشى الإلـه ويتقي ومات على التوحيد فهو مهلل
وينظر من فيها إلى وجه ربه بذا نطق الوحي المبين المنزل
وقال أحد الصالحين فى دعائه لمولاه فى هذا الباب والرحاب:
بخضوع من فضله بإعتقاد إسأل الله ضارعاً يا فؤادي
والرضا والجمال عين مرادي يا ملبي الداعي سألتك ربي
لي تجل بواسع الإمداد باسمك الأعظم العلي تعالى
من جمال العطا وخير الأيادي نجحن مقصدي أعني بودٍّ
بجمال الوهاب والجواد أنت ربى وأنت حسبي تعطف
أعطني فوق مقصدي ومرادي قابل التوب غافر الذنب ربي
بجمال الحسنات هب لي رشادي بدلن كل سيآتي إلهي
وبفضل الولي والإمداد جملن ظاهري بعز عزيز
وبحب بكامل الإعتقاد جملن باطني بحق يقين
وضياء الهدى لهم بالوداد واجعلني كنز الغنى للأحبا
وصلاة على الحبيب الهادي نجح القصد أعطني السؤل ربي
[1]حاشية البيجرمي على الخطيب، إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين
[2] صحيح مسلم عن ابن عباس.
[3] صحيح مسلم عن ابن عباس.
[4] صحيح مسلم عن أبي هريرة.
[5] لأنك لو ضاعفت عدداً عشر مرات فقط لصار 1024 مثلاً ولوضاعفته عشرين مرة لصار 1048576 مثلاً، وإذا ضعفته ستون مرة لصار أكثر من مليون مليار ضعف بكثير ( أى واحد صحيح وعلى يمينه أكثر من ثمانية عشر صفراً)!!!